الاثنين، 12 سبتمبر 2011

المجلس الوطني الإنتقالي بين الإنقلابات ومضادتها

بالرغم من أن مخاض المجلس الوطني الإنتقالي كان طويلاً وولادته كانت عسيرة، فإن مجيئه إلى الحياة يعتبر قفزة نوعية في حياة الثورة السورية، لأن هذه الثورة التي أثبتت للنظام أن جذوتها لن تخمد برغم سعير القتل والتنكيل و بذلك اكتسبت ثقة العالم و تقديره، أصبحت اليوم بأمس الحاجة إلى قيادة سياسية ترسم لها أفقها المستقبلية و تحضر للمرحلة الإنتقالية بعد سقوط النظام. و لكن مما لاشك فيه أن الصعوبات التي تعيق عمل هذا المجلس مازالت عديدة وعسيرة.

منذ أن بدأت الثورة السورية في الخامس عشر من آذار و كان السوريون ينتظرون مبادرة سياسية تصيغ لهذه الثورة أهدافها واستراتيجتها. إذ إننا لانثور لمجرد الثورة، بل نثور من أجل غايات ملموسة ونتبع منهجيات محددة لتحقيقها .هكذا توالت المبادرات فجاءت قاصرة الرؤية، وتعاقبت المؤتمرات فانتهت فاشلة أو جزئية النتائج.  أخيراُ جاء الإعلان عن تسمية مجلسٍ وطنيٍ انتقالي (في ٢٩ آب)  ليكسر جمود المعارضة و يضعها أمام خيار صعب و محرج، ونشأت هذه الصعوبة والاحراج من الآلية غيرالتقليدية التي تمت من خلالها اختيار الأعضاء و تسمية الرئيس و نوابه و أيضاً من الطريقة غير الدبلوماسية للإعلان عنه. فلقد تم اختيار الاعضاء من قبل لجنة لا أحد يعرف من هي، ولا أحد يعرف على أي الأسس والآليات عملت لتختار الأعضاء أو رئيس المجلس و نوابه، ثم لقد تم اختيار هؤلاء من غير استشارتهم، و علموا بالموضوع بعد أن صرح به الناطق باسم اللجنة التحضيرية، وأخيراً فإن اللجنة التحضيرية حذرت الأعضاء المصطفين واضعة إياهم أمام الأمر الواقع بقولها (إن هذا الاختيار إنما يضع على عاتق اعضاء المجلس المختارين مسؤولية تاريخيه ووطنيه تجعل من دماء الشعب أمانة في أعناقهم لايستطعون الفكاك منها وعليهم وعلى عاتقهم يقع مستقبل الشعب السوري و إن على من يستنكف منهم عن القبول بهذه المهمه أن يشرح  للشعب السوري عبر وسائل الإعلام مبرراته الوطنية)  .طبعاً كل هذا لا يمت لأي عرف من الأعراف أو تقليد من التقاليد المتبعة في هذه الأحوال.

 قد يخطر على بال البعض أن اللجنة ساذجة لا علم لها بهذه الأعراف والتقاليد، ولكن الكيفية التي تمت من خلالها صياغة البيان بوضع الأعضاء المصطفين أمام الأمر الواقع و طريقة الإعلان عنه عبر قناة الجزيرة تدل على أن اللجنة محنكة جداً وكانت تعرف تمام المعرفة ماهي فاعلة.  غير أن هناك تعليل أخرقد يبدو منطقياَ أيضاً و هو أن اللجنة كانت قد تعبت من معارضة شلّها التحجر العقائدي، وأقعدتها الخلافات الشخصية التافهة، فأرادت أن تضعها وجههاً لوجه أمام استحقاقاتها التاريخية. ولكن أي شخص خبير بأحوال المعارضة السورية تكفيه نظرة سريعة في الأسماء الموضعة ليكتشف أن هذه الأسماء وضعت بطريقة مستعجلة جداً فقط لترضي (أو بالأحرى لتسكت) الكثير من الأطراف من غير أن تؤدي إلى تشكيل مجلس حقيقي و دائم، لذلك فالتعليل المنطقي لهذا الإعلان ا لمسرع ا لمتسرع عن هذا المجلس هو أن اللجنة أرادت قطع الطريق على أشخاصٍ أخرين كانوا يحضرون للإعلان عن مجلسٍ آخر ظنت اللجنة أنه سيضر بالثورة و المعارضة معاً. فمن هم  هؤلاء الأخيرون وأي مجلسٍ كانوا ينوون التشكيل؟

قبل الإعلان عن المجلس الوطني الإنتقالي كان هناك مؤتمر للمعارضة عقد في اسطنبول (من ٢٠-٢٣ من آب) ، و مع أن هذا المؤتمر فشل بالرغم من تمديده يومين اضافيين أصّرالمؤتمرون على المضي قدماً في جهودهم لتشكيل مجلسٍ ليمثل المعارضة تحت اسم المجلس الوطني السوري. كان فشل هذا المؤتمر لعدة أسباب منها أنه قد تمّ عمداً إقصاء بعض أطياف المعارضة عن هذا المؤتمر، و من البديهي أن أي مؤتمر لا يشمل كل أطراف المعارضة في هذه المرحلة لن يخدم الثورة وبالتالي فهوحكماُ فاشل. كذلك فقدعصفت بهذا المؤتمر خلافات حادة أدت إلى انسحاب فصيلين أساسيين منه هما ممثلي الائتلاف الوطني لدعم الثورة السورية (مؤتمر بروكسل) و ممثلي اللجنة منبثقة عن المؤتمر السوري للتغيير (مؤتمر أنطاليا)، و بالرغم من ذلك أصّر المؤتمرون على نيتهم بتأسيس مجلسٍ لينوب عن المعارضة بأكملها، هكذا فإذ بفصيل منها يعلن أحقيته باستأثار قراراتها ويعلن نفسه ولياً على الشعب السوري بأكمله ، هذا الفصيل عينه هو الذي قالت عنه بعض معارضة الداخل أنها لا تعرفه. و الأخطر من هذا كله أن هذا المؤتمر كان من المقرر عقده في الولايات المتحدة و أن يضّم فقط فصائل المعارضة المتواجدة فيها، ولكن الولايات المتحدة دفعت هذا المؤتمر ليعقد في تركيا لتشرف عليه هذه الأخيرة و ليضّم بعض الفصائل الأخرى مدّعياَ هكذا تمثيل كل المعارضة ، و أيضاً لم يكن على أجندة هذا المؤتمر تشكيل أي مجلس، و لكن الولايات المتحدة هي التي حثّت على هذا. كل هذا كان مؤشراً أن  الولايات المتحدة كانت قد ابتدأت بالتدخل في أمور المعارضة السورية و ذلك لصالح طرف على حساب أطراف أخرى، أي ابتدأت بتنظيم البيت السوري على هواها، فهذا لو استمر كان سيضع سوريا على طريق اللاستقرار لسنوات عديدة، مشابه لعدم الاستقرار الذي شهدته سوريا بعد التدخل الأمريكي الأول في الأمور الداخلية السورية، أعني بهذا انقلاب حسني الزعيم.

هكذا جاء الإعلان عن المجلس الوطني الإنتقالي ليقطع الطريق على دخيلين كانوا يريدون أن يُقصَوا جانباً الكثير من فصائل المعارضة التي جاهدت ضد النظام لأمدٍ طويل وأن ينصبوا أنفسهم أوصياء على الشعب السوري الذي يضحي بدماء أبنائه ليعيد حقه بتملك حرية تقرير مستقبله بنفسه ، وأيضاً جاء تعيين الدكتور برهان غليون رئيساُ للمجلس ليجعل هذا المجلس قريباً قدر الإمكان من معارضة الداخل، وليبعد المعارضة والثورة السوريتين عن دائرة نفوذ إدارة أمريكية ليس لها بعد نظر، تريد أن تصل لغاياتها الآنية، غير آبهة بحيثيات القضايا التي تتعامل معها، أو بعواقب ما تفعله على مصائر الشعوب الأخرى على المدى المتوسط أو البعيد.

لم يكن من العستغرب أن ينجم عن هذا زوبعة وبلبلة ليس فقط بين الإعلاميين والمواطنين العاديين المتتبعين للأحداث ولكن أيضاً بين الأعضاء المصطفين ، هكذا سارع الكثير من شخصيات المعارضة و من بينهم رئيس المجلس المقترح إلى اعتبار الإعلان خلبياً و ليس إلا مناورة إعلامية. ولكن في اليوم التالي و يبدو بعد أن استعلم عن الموضوع وتمحّص فيه أعلن الأستاذ برهان عن قبوله بهذا التعيين. حتماً لم يكن هذا القبول بالموضوع السهل، وإنما احتاج لحكمة و شجاعة كبيرتين ، فلا بدّ أن الرئيس المختار أدرك حراجة المرحلة التي تمر بها الثورة السورية و حاجتها الملحة لقيادة سياسية.  هكذا فإنه قبل أن يأخذ على عاتقه ترأس مجلسٍ مولودٍ بعملية قيصرية و غير قابل للحياة بتشكيلته الحالية حتى بعد وضعه في غرفة العناية الشددة، و قيادة معارضة تعصف بها الإنقسامات العقائدية المتحجرة والخلافات الشخصية التافهة، لهذا و في أول تصريح بعد قبوله بهذه المهمة أعلن أن أولوياته ستكون أولاً إعادة هيكلة مجلسه و  ثانياً العمل على لمّ شمل المعارضة.

هكذا فإن الإعلان عن هذا المجلس كان حركة ذكية أنقظت المعارضة من محاولة انقلاب عليها من داخلها، و حمت الثورة من مسعى البعض للاستئثار بمنجزاتها، و صانت الشعب ممن أرادوا مصادرة حرية قراره و رغبوا في وضعه في خضم ّمعمعة التدخلات الأجنبية. وكان قبول الأستاذ برهان غليون برئاسة و تحمل مسؤولية هذا المجلس الخديج المولود بقيصرية قراراً شجاعاً  و حكيماً و مغامراً بآن معاً. فليكن الله في عون الأستاذ برهان في هذه المهمة العسيرة، فالتحديات التي هي أمامه مازالت جمّة ، ابتدأت بصعوبة إعادة صياغة مجلسه في ظل معارضة مشتة مكانياً و فكرياً، ولن تنتهي بعقبة الحصول على الاعتراف بشرعيته، إذ إنه بالرغم من أنه سيلقى ثقة و ترحيباً شعبيين واسعين، فإنه قبول بعض أطراف المعارضة و بعض المثقفين به سيأخذ بعض الوقت و سيستلزم من رئيس المجلس الكثير من الصبر والمرونة والدبلوماسية.

.