الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

باكورة الإنجازات الدبلوماسية


بالرغم من أن الدول العربية لم تصوت لصالح تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، فإن اجتماع الجامعة الذي جرى الأحد الماضي شكل إنجازاً  دبلوماسياً مهماً للثورة السورية بشكل عام و  للمجلس الوطني السوري بشكل خاص، إذ إن البيان الختامي وضع النظام في زاوية يصعب عليه الخروج منها دون تنازلات مرّة، و أعطت المجلس الوطني السوري فرصة للمناورة الدبلوماسية.

 لم يكن أكثر المحللين تفاؤلا و لا الدول التي سعت لعقد الإجتماع تتوقع أن ينجح التصويت على تعليق عضوية النظام السوري في الجامعة العربية، و هذا ما باح به أمين الجامعة عينه حتى  قبل انعقاد الإجتماع. فالحقيقة أن إقرار مثل هذا التعليق يتطلب موافقة كل أعضاء الجامعة عليه، و كان من البديهي التفكير أن هناك دولاً عربية لن توافق على مثل هذا التعليق، إذ إن بعضها يخاف من أن  يعاني من نفس مصير النظام السوري كاليمن الذي يعاني من أزمة مشابهة  للأزمة  السورية  و الجزائر التي تخشى من مثل هذه الأزمة ،  و بعضها  الآخر جيرانه الذين يخافون من غضب جارهم القوي إذا تحركوا ضده أو من آثار سقوطه إذا هو انهار كلبنان و العراق.

لهذا فإن مجرد حدوث اجتماع استثنائي للجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية لبحث الأوضاع  في سوريا  كان انجازاً مهماً للمجلس الوطني السوري،  فهذا الإجتماع الطارئ تمّ بناء على دعوة من مجلس التعاون الخليجي بعد جهود دبلوماسية دؤوبة قام بها المجلس الوطني السوري . هكذا شكل هذا الإجتماع باكورة النجاحات الدبلوماسية  لهذا المجلس الوليد الذي لم يمضي على تأسيسه أكثر من أسبوعين معلناً أنه بشير لإنجازات عديدة آتية.

 أما تجاوب دول الخليج مع هذه المبادرة فهو قبل كل شئ يعبّر عن تململ هذه الدول من نظامٍ قاسٍ عنيد لا يدرك و لا يفهم، حاولت أن تُفّهمه بالكلام و النصح فلم يفهم، ثم حاولت أن  تُعبّر له عن امتعاضها منه بأفعال رمزية كسحب سفرائها من عنده فلم يعتبر. هكذا لم تجد بُدّاً من  تشجيع معارضة كانت حتى الآن ضائعة في متاهة الإنقسامات و الإنشقاقات، ثم اجتمعت معظم فصائلها تحت لواء المجلس الوطني السوري. هذا المجلس الذي ابتدأ ينظم صفوفه و يرتب أعماله و يقوم بمبادراته التي فيها شئ من الذكاء و الجسارة و أيضاً اكتسب قاعدة شعبية واسعة. هكذا رأت فيه دول الخليج  مفاوضاً و معيناً في آنٍ معاً لنظامٍ لم يعد قادراً على الخروج من الأزمة لوحده، أو لربما أرادت أن  يراه هذا النظام كتهديداً فيختشي و يتعظ، أو رغبت أن تقدمه كبديلاً لنظام لم يعد استمراره يعني إلا الخراب و الدمار. كل هذا إن عنى شيئاً فهو يعني أن اعتراف دول الخليج الرسمي بهذا المجلس ككمثل للمعارضة و الثورة السوريتين أصبح و شيكاً خصوصاً بعد ترحيب العديد من فعاليتها و مسؤوليها به.

و على نحوٍ شبيه جاء البيان الختامي داعياً النظام إلى التفاوض مع معارضيه في الداخل و الخارج  فوضع النظام بتناقض مع الدول العربية، فالنظام لا يعترف أصلاً بوجود معارضة في الخارج، و هو إذا اعترف بوجودها يعتبرها عميلة و عدوة. بالإضافة لذلك فإن هذه الدعوة تشكل بينة غير مباشرة على أن الدول العربية تنظر إلى المجلس الوطني السوري على أنه  الفصيل الأساس في المعارضة السورية أو لربما هو الممثل لهذه المعارضة، إذ إنها بتأكيدها على ضرورة إشراك معارضة الخارج في الحوار أعطته دور الطليعة في التفاوض مع النظام فهو الوحيد الذي له وجوداً قوياً في الداخل و الخارج، و هذا نقيض ما أراده النظام الذي ينظر إلى هذا المجلس على أنه غريمه الأول، و لهذا عمل جاهداً على  صنع معارضة في الداخل على مقاسه  ليتحاور معها أو بالأحرى ليتآمر معها على الشعب..

و فوق كل هذا فلقد تمت صياغة البيان الختامي لإجتماع الجامعة العربية على شكل قرار تضمن متطلبات محددة ومهل لتنفيذ هذه المتطلبات و مراقبين على هذا التنفيذ، ومن بين هذه المتطلبات و المهل و المراقبين أن يتضمن وفد المعارضة معارضين من الداخل و الخارج و أن تجري المفاوضات بين النظام و المعارضة  في مقر الجامعة العربية و برعايتها، و أيضاً وضع مهلة ١٥ يوم للتنفيذ، و أخيراً سمى قطر كمراقب على تنفيذ الدعوة.  فكل هذا هو جرعة صعبة البلع على نظام شديد الحساسية على سيادته.  فهذا النظام يعتبر أن كل المواطنين السوريين جزءاً من ملكيته، فكيف لعبيد أن يجلسوا على طاولة واحدة مع السيد ليفاوضوه، فالعبيد عليهم فقط أن يسمعوا و يطيعوا، و أما هؤلاء الذين يدعوهم عملاء و خونة فعليهم أولاً أن يعلنوا توبتهم قبل أن يقبل بأن يرضى عنهم السيد و يسمح لهم بدخول بيت الطاعة.  أما بالنسبة للمهل و المراقبين فالسيد لا يتعرف عليها أبداً إذ إنها ليست من قاموس كلماته.  لهذا لم يكن مستغرباً أن يعلن السفير السوري لدى الجامعة العربية يوسف أحمد رفض سورية للبيان جملة وتفصيلا و أن يعتبره عملاً عدائيا وغير بناء في التعامل مع الأزمة السورية.

إن كل هذا شكل فرصة للمجلس الوطني السوري ليلعب لعبة سياسية حاذقة، فعبر بلسان مسؤول العلاقات الخارجية فيه عن ترحيبه بهذه المبادرة و بأي مبادرة تساعد على وقف حمام الدم جاعلاً النظام يبدو أرعناً متصلفاً قاسياً غير آبه بحياة السوريين، و بهذا فهو سيضع كل اللوم على النظام عازلاَ إياه أكثر فأكثر عن محيطه العربي، و دافعاً الدول العربية لإزالة أي غطاء عنه، و مبيناً لحلفائه العالميين الذين يراهنون على حواره مع المعارضة لإطالة عمره بأن رهانهم خاسر، و أخيراً معطياً الذريعة للدول العالمية التي تريد التربص به لفرض عقوبات أشد عليه و ربما استصدار قرارٍ عالمي ضده.

الاثنين، 10 أكتوبر 2011

المعارضة السورية أمام امتحان دبلوماسي دقيق

تشكل الزيارة التي سيقوم بها وفدا المعارضة السورية المبعوثان من قبل الملجلس الوطني السوري و هيئة التنسيق الوطنية لموسكو يوم الثلاثاء القادم حدثاً ذو معنى خاص ، إذ إنه لا يدل فقط على أن المعارضة بدأت تكتسب ثقلاً عالمياً  و ربما على أن النظام قد بدأ يفقد معظم حلفائه في العالم و بالأخص حليفته الأكبر روسيا، بل لأنه أيضاً يشكل امتحاناً للحذاقة الدبلوماسية لجناحي المعارضة.

لقد ارتكزت سياسية روسيا في منطقة الشرق الأوسط على حماية حليفها النظام السوري، إذ إنه ليس فقط أحد زبائن صناعة أسلحتها و الذي يؤمن لها منفذاً عسكرياً على البحر المتوسط عبر قاعدتها العسكرية المتواجدة بالقرب من مدينة طرطوس، و لكنه أيضاً "بممانعته "العالية التكلفة لشعبه يبطئ الامتداد الغربي إلى الشرق الأوسط الذي لا تقدر روسيا على منافسته. هكذا حمت روسيا الأسد من العقوبات التي كانت الدول الغربية تنوي فرضها عليه عبر مجلس الأمن في عامي 2005 و 2006 عقب جريمة اغتيال الحريري، إذ قامت روسيا بالعمل على إيجاد حلٍ وسط يقوم على أساس تعاون الأسد مع التحقيق الدولي مقابل عدم وضع ضغط كبيرعليه. كل هذا أعطى الأسد فرصة لفك عزلته و تحسين وضعه الدولي.

حاولت روسيا اعطاء نظام الأسد الوقت للخروج من الأزمة السورية الحالية على غرار ما فعلت بعد اغتيال الحريري، فنصحته باجراء بعض الاصلاحات، ثمّ دافعت عنه بدعوى أنه يحتاج لوقت لتحقيق الإصلاحات التي وعد بها. وهي فعلت هذا متشجعة ببعض أطراف المعارضة التي كانت ترى أن التحول الديمقراطي لا يتطلب التخلص كلياً من النظام الحالي، بل يتطلب فقط التخلص من الأجهزة المخابراتية التي أقضت مضجع الشعب و الماكينة العسكرية استنفذت مقدراته. و هكذا اعتقدت روسيا أن بقاء الأسد ممكناً، و أنه من الممكن التوصل لحلول وسط بين النظام و المعارضة، وأن اطراف المعارضة التي لا تتفق مع هذا الرأي هي متعنتة و متطرفة، و أن الدول الغربية متسرعة و متهورة. لهذا أصرت روسيا منذ البداية على ضرورة الحوار بين النظام و المعارضة مع التمسك ببقاء النظام، و نددت بأطراف المعارضة التي لا ترى جدوى من هذا الحوار، و لهذا عملت على منع أي قرار من مجلس الأمن يدين النظام .لكنها وافقت في شهر آب على بيانِ رئاسي يتضمن دعوة صريحة ومباشرة لوقف كافة أشكال العنف ومشاركة كافة القوى السياسية فى حوار سياسى بناء . ثمّ استخدمت الثلاثاء الماضي حق النقض ضد مشروع القرار الأوروبي المدين لأفعال النظام محذراً إياه أن أفعاله القمعية ستؤدي به إلى مزيد من العزلة و العقوبات. ولتبرير هذا النقض استخدمت حجتين معلنتين، الأولى هي أن القرار لم يتضمن إدانة للمعارضة بالإضافة لإدانته النظام، والثانية هي أنها لا تريد مشاهدة تكرارٍ للمشهد الليبي على الأرض السورية.

ها نحن في نهاية الشهر السابع من الإنتفاضة و رهان روسيا على اصلاحات الأسد و على حوار بين النظام و المعارضة لم يتحقق، فإذاً فما هو خطأ التقدير الذي ارتكبته الإدارة الروسية؟ أولاً إن روسيا اعتبرت أن بشار مازال ليناً كما كان قبل خمس سنوات، فبشار بعد جريمة اغتيال الحريري قَبِلَ بأن تأتي لجنة التحقيق إلى دمشق و وفّر لها كل التسهيلات للقيام بعملها، برغم أن هذا القبول كان جرحاً لكبرياء النظام، و فوق ذلك بشار كان مستعداً للتضحية بزوج أخته آصف شوكت لإنقاذ النظام لو اقتضت الحاجة. و لكن هذه المرة ظهر بشار متعنتاً متعجرفاً، لم يسمح له كبرياءه بتقديم أي اعتذارٍ لأهالي درعا، و لم يقدم للعدالة ابن خالته عاطف نجيب جزاءً على جرائمه،  و حتى لم يعترف بحقوق الشعب أو بالمعارضة التي أرادته روسيا أن يحاورها. أيضاَ فبينما كانت جريمة قتل الحريري حدثاً واحداَ من غير دلائل مباشرة تدين النظام، فالنظام اليوم يكرر جرائمه اليوم في وضح النهار من دون آي خوف أو حياء. كل هذا جعل إمكانية جلوس المعارضة على طاولة المفاوضات مع النظام للوصول إلى حلٍ يرضي الطرفين معدومة. فهل يا تُرى بدأت روسيا تدرك الحقيقة؟ و هل تصريح رئيسها الذي قاله في الأيام الماضية معلناً أنه إذا كان الأسد لا يستطيع اجراء الإصلاحات فعليه بالتنحي هو خطوة في هذا المجال؟ و هل دعوة القيادة الروسية لجناحي المعارضة السورية لزيارتها هو إعلان بأن السياسة الروسية لم تعد ترتكز على تشجيع الحوار بين النظام و معارضة تقبل بوجوده، بل هي قائمة منذ الآن فصاعداًعلى تشجيع الحوار بين معارضتين لهما رؤيتين مختلفتين لحل الأزمة الحالية؟ هذا ما ستجيبنا عليه تطورات الأيام القادمة و أيضاً وفود المعارضة التي تزور العاصمة الروسية.

لاشك أن المجلس الوطني السوري و هيئة التنسيق الوطنية لهما رؤيتان مختلفتان لحل الأزمة الحالية، وطبعاَ هذا الاختلاف لا ضير فيه، لا بل هو طبيعي و سليم طالما أن كل طرف يحترم الآخر و لا يُخوِّنه، و ربما يكون مفيداً إذا عرف الطرفان استخدامه. منذ بدأت الثورة اتخذت الفصائل التي انضوت لاحقاً تحت لواء هيئة التنسيق رؤية مختلفة لحل الأزمة  من تلك التي انضوت تحت راية المجلس الوطني، فبينما الأولى رأت أنه يمكن تحقيق الديمقراطية بإصلاح النظام عبر تخليه عن طبيعته الأمنية و العسكرية، رأى الثاني أن النظام لن يتخلى عنهما طوعاً لذلك وجب اسقاطه. و الحقيقة أن الهيئة استمرت على موقفها هذا إلى ما بعد مؤتمر حلبون الذي عقد في شهر أيلول الماضي حيث تعرضت الهيئة لانتقادات عنيفة من قِبَلِ شباب الثورة تصل لحد السخط لعدم و ضعها اسقاط النظام كجزء من برنامجها. بعد هذا تبنت الهيئة هذا الشعار و لكن قالت "لا" لأي تدخل خارجي من أي نوع كان، بينما لم يستبعد المجلس الوطني فكرة  التدخل الخارجي و لكن من غير أن يحدد ماهيته. لا شك أن روسيا ستميل إلى رأي هيئة التنسيق لأنها من حيث المبدأ ترفض أي تدخل غربي في الأزمة السورية و خصوصاً إذا كان عسكري ، وأيضاً بسبب التركيبة اليسارية الاشتراكية لمعظم الأحزاب المنضوية تحت عبائتها.

و السؤال الذي يمكن أن يُطرح الآن طالما أن المجلس الوطني و هيئة التنسيق أصبح لهما قاسم مشترك واحد في برنامجيهما لحل الأزمة السورية و هو اسقاط النظام، فهل يمكن أن يعملا بتناسق خلال زيارتهما لموسكو لاقناع المضيف الروسي بضرورة هذا الاسقاط؟ مما لا شك فيه أنه إذا استطاع جناحي المعارضة العمل بتناسق فإن بإمكانهما فعل الكثير. لذلك فأولاً و قبل كل شئ على الوفدين أن يستفسرا عن حقيقة الموقف الروسي الآن، فهل مازالت روسيا تعتقد بأنه يمكن حل الأزمة السورية دون اسقاط النظام؟ ثم على الوفدان أن يناقشا القيادة الروسية في حجج النقض الروسي لمشروع القرار الأوروبي الذي قدم لمجلس الأمن الأسبوع الماضي. فبينما تبدو حجة إدانة المعارضة و النظام على السواء واهية و غير عادلة إذ لايمكن مقارنة الجلاد بضحيته و خصوصاً بعد انتقاله إلى مرحلة جديدة في اجرامه مع قتله لمشعل تمو و إيذائه لرياض سيف جسدياً، فإن حجة تكرار المشهد الليبي على الأرض السورية تستحق النظر، إذ إنني أعتقد أن أوربا و أمريكا لا تريدان تدخلاً عسكرياً في سوريا على غرار ما حدث في ليبيا، و أيضاً فإن الشعب السوري لا يريده أيضاً، فنحن نعرف كيف أن السوريين شديدي الحساسية لأي انتهاك لسيادة بلادهم، وأيضاً فإن أي ضربات من الناتو ستلحق الأذى بالمدنيين و المنشآت المدنية نظراً لكثافة السكان العالية في الكثير من المناطق السورية. و أخيراً على الوفدين أن يطرحا إمكانية صياغة مشروع قرار جديد في مجلس الأمن يؤدي لزيادة عزلة النظام السوري و خنقه.

 بسبب كل ما ذكرت آنفاً فإنني أقول أن مهمة وفدي المعارضة الذاهبين إلى موسكو الثلاثاء القادم ستكون شديدة الدقة و بالغة الأهمية. لهذا أقول لأعزائى في هيئة التنسيق كونوا عمليين و بينوا للقيادة الروسية أن حلّ الأزمة السورية يبتدأ باسقاط النظام، و أقول لأصدقائي من المجلس الوطني انتبهوا ألا تضعوا العربة أمام الحصان، فنحن لا نريد إثارة حفيظة أحد، و نريد اسقاط النظام بأقل التكاليف المادية و البشرية الممكنة حتى لو تطلب ذلك بعض الوقت، و أقول لكليهما إذا احسنتما الأداء و عملتما بتناسق فإنكما ستقدمان خدمة كبيرة للشعب السوري.

السبت، 1 أكتوبر 2011

المعارضة السورية و العقم السياسي


لا شك أن  المعارضة التقليدية (الأحزاب السياسية التقليدية) تفاجأت بالثورة كما تفاجاء بها أغلب السوريين. هذه المعارضة التي كانت في الأصل مشلولة بسبب تصلبها العقائدي و الخلافات الشخصية التفاهة بين أفرادها و أيضاً بسبب محاربة النظام لها و خبثه الذي استطاع من خلاله الاستفادة من هذه الخلافات لزيادة تشرذمها وتعميق عجزها. هكذا جاء تفاعل المعارضة  التقليدية مع الثورة بطيئاً، فمثلا إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي و هو التنظيم السياسي الأكبر داخل القطرفي ذلك الحين أنشأ صفحته للتفاعل الإجتماعي بعد مضي ثلاثة أشهرعلى بدء الثورة  و هذه الصفحة لم تستقطب الكثير من الناس رغم الحماسة الأولى لها لأنها عجزت عن طرح قضايا مهمة متعلقة بالثورة. أما الأحزاب الأخرى فإن معظمها تجمع بعد مضي الكثير من الوقت تحت مظلة هيئة التنسيق الوطني و بقيت هذه الهيئة من غير حراك سياسي فعال يذكر. أما الشخصيات السياسية المستقلة فلقد انكفأت عن طرح أي مبادرة سياسية تذكر بعد مؤتمرها الناجح نسبياً في مؤتمرها  الذي عقدته تحت شعار " سوريا للجميع" في فندق سميراميس، و ذلك ربما لأنها راهنت على التفاوض مع نظام لا ينظر بالأصل إليها على أنها ندّاً، و أراد من خلالها أن يتحايل على الشعب ليحبط ثورته. هكذا فكل هذا يدّل على عجز الأحزاب و الشخصيات السياسية التقليدية ليس فقط عن التوحد و وضع إطار سياسي للثورة بل أيضاً عن مواكبة أحداثها و إدراك حيثياتها.

لكن هناك طائفة أخرى من المعارضة ظهرت في السنوات العشر الماضية، و هذه الطائفة تمثلت بالنشطاء الحقوقيين. هذه المعارضة التي لم تعتد على العمل السياسي والتنظيم الحزبي بالمعنى التقليدي. في الحقيقة هذه الطبقة من المعارضين هي كانت الأكثر نشاطاً خلال السنوات العشر الماضية، وهي التي تعلّمت كيف تخاطب الرأي العام العالمي وتحاكي وسائل الإعلام. و الأهم  من ذلك أنها هي التي كانت تنتظر بدء هذه الثورة و تتوقع حدوثها، أو بالأحرى هي التي حاولت إيقاظ الشعب ليثور على جلاده و ساهمت بشكل من الأشكال في بدء هذه الثورة. و السؤال لماذا لم تعمل هذه الطبقة على صياغة الإطار السياسي للثورة، هذا الإطار الذي كان ضرورياً لقيادة معركة سياسية فعّالة ضد النظام للإسراع بإسقاطه وقيادة مرحلة إنتقالية تحقق للشعب طموحاته 
.
قبل أن أجيب على هذا السؤال دعونني أوضح  ماهية مساهمة هؤلاء النشطاء الحقوقيين في بدء الثورة. لاشك أن السبب الأساسي للثورة كان امتلاء الشعب بالحنق على النظام، هذا الحنق الذي تراكم على مدى عقود من الحرمان الإقتصادي و امتهان الحريات. ولا شك أن شرارة انطلاق الثورة كان احتجاز الأمن للأطفال في درعا و تعذيبهم و قلع أظفارهم. و لكن ما كان لهذه الثورة لتنتشر لولا وسائل التفاعل الإجتماعي (الفيسبوك) و وسائل الإعلام التقليدي (قناة الجزيرة)، و هذه كان قد تمّ تجهيزها قبل بدأ الثورة، و الذين قاموا بتجهيز كل هذا كان النشطاء الحقوقيين.

 و السؤال الآن لماذا لم يساهم هؤلاء النشطاء الحقوقيين في تجهيز الوسط السياسي للتفاعل مع الثورة بشكل فعّال أو التحضير لمبادرة تسد الفراغ السياسي الذي رافق هذه الثورة؟ في الحقيقة حاول النشطاء الحقوقيون طرح بعض المبادرات و صياغة بعض الأطر السياسية، و لكن هذه المبادرات  و الأطر جاءت ساذجة أو ناقصة.

 هكذا أتت أولى المبادرات في ٢٩ نيسان بواسطة رضوان زيادة و رفاقه تحت عنوان "المبادرة الوطنية للتغيير من أجل تحول آمن نحو الديمقراطية في سوريا". هذه المبادرة ارتكزت على الافتراض أن بشار سيدرك حقيقة المأزق الذي هو فيه، و سيستقيل فوراً بعد بدأ الإنتفاضة ليجنب البلاد الخراب و العباد زهق الأرواح مسلّماً الحكم  بطريقة سلمية  لوزير الدفاع في ذلك  الحين العماد علي حبيب. طبعاً كانت هذه المبارة من السذاجة بمكان، إذ إن طاريحها لم يكن لهم فهماً حقيقياً لماهية النظام الأسدي الكّلي التملك و لطبيعة شخصية بشار التامة الانفصال عن واقعها. هكذا لم يستقيل بشار و اختار طريق المعاندة و التحدي و القسوة و الدمار، و ماتت المبادرة لسذاجتها.

 بعد ذلك أتى مؤتمري أنطاليا )المؤتمر السوري للتغيير (و بروكسل) مؤتمر الائتلاف الوطني لدعم الثورة السورية(، و كان منظموهما من الأشخاص الذين شاركوا في التحضيرات للإنتفاضة السورية، مع ذلك جاءت مبادراتهم غير ناضجة من الناحية السياسية. كان من الواضح من خلال طريقة التنظيم لكلا المؤتمرين و طبيعة المدعويين أن كلا المؤتمرين لم يهدفا إلى صياغة اطار سياسي للثورة بل لتعبئة حشد شعبي للثورة. هذا الهدف لم يكن سيئاً بل ربما كان ضرورياً في ذلك الوقت، و لكن التوقف عنده كان غير كافٍ. أما لماذا لم تحاول اللجان المنبثقة عن هذه المؤتمرات السّعي لبناء الإطا ر السياسي الضروري  لإنجاح الثورة بسرعة، فهذا ما أدعوهم للإجابة عنه، و لكن بالنسبة لي هو دليل سطحية سياسية.

ثم جاء مؤتمر الإنقاذ الوطني الذي وضع له منظموه هدفين: الأول بناء صورة لسورية مابعد الأسد و الثاني تشكيل حكومة ظل، و قد وضع المنظمون هذين الهدفين بناء على إعتقادهم أن سقوط النظام الأسدي آني، هكذا علينا أن نعبّأ المجتمع حول مشروع سوريا الجديدة و نسدّ الفراغ  المؤسساتي الناجم عن سقوطه بحكومة ظليلة، ولكن المؤتمر فشل فشلاً ذريعاً، إذ إن فكرة تشكيل حكومة ظّل بعيدة كل البعد حتى عن المتطلبات الحالية للثورة، فالنظام الأسدي لم يكن آني السقوط و لا هو الآن و المعارضة لم تكن مهيئة لتشكيل أي كيان سياسي يدير عملها وذلك بسبب تشرذمها و ربما ليست هي الآن. والصورة التي حاول المؤتمر رسمها عن سوريا القادمة لم تكن بالمضيئة إذ اتسم المؤتمر بسوء التنظيم و بالتصرفات الصبيانية لبعض المشاركين فيه 
.
و أخيراَ حصلنا على مجلسين واحد انتقالي و آخر وطني، كلاهما ولدا بولادة غير طبيعية، و كلاهما يدّعي تمثيلنا و يصارع الآخر على هذا التمثيل. و ها نحن مساكين حيارى لا نعرف من نصدق منهما، و لا نعرف أي واحد منهما يمثلنا فعلاً، أو حتى نشك إذا كان أي منهما يستحق تمثيلنا. هكذا نرى الدماء تسيل فتسيل أرواحنا معها، و نرى البلاد تتمزق فتتمزق قلوبنا معها. كل هذا بينما المجلسان يتصارعان على تمثيلنا، وهم غير شاعرين بنا والسؤال الذي نطرحه على أعضائهما كيف تدّعون تمثيلنا إذا كنتم لا تشعرون بنا.

هكذا لم يدرك السياسيون التقليديون و أشباههم الأكثر حداثة أهمية صنع إطار السياسي يساعد على انجاح الثورة و اسقاط النظام بسرعة قبل أن يتكبد الشعب الكثير من الضحايا أو تنحرف عن مسارها نحو حرب أهلية. و لم يفهم هؤلاء و أولئك أن اتساع امتداد الثورة المكاني والزماني سيستدعي تداخل الكثير من العوامل و تدخل العديد من الأشخاص فيها جاعلاً منها صعبة القيادة و فاتحاُ الباب عليها ليتسلقها الكثيرون. هكذا وصلنا  لما وصلنا إليه الآن ثورة من دون قيادة تدير الحرب السياسية مع النظام للإسراع باسقاطه، و من غير ريادة ترسم لها أطرها لتمنعها الإنزلاق نحو حرب أهلية. كل هذا يدل على أن المعارضة السورية بمختلف أطيافها فاقدة للعمق السياسي و ناقصة بالنضج الشخصي أو لربما هي عقيمة و عديمة الثمر.

سمعنا أنه بعد اجتماعات دامت يومين في إسطنبول شاركت فيها قوى عدة من المعارضة السورية، تم الاتفاق على تشكيل المجلس الوطني السوري وسيعلن عن التشكيل النهائي خلال اليومين القادمين. لهذا فإننا نخاطبهم بقولنا: يا سادة القوم و أولياء أمورنا كنا قد وصفناكم بالسذاجة والسطحية السياسيتين فأثبتوا خطأ وصفنا، و اتهمناكم بنقص النضج الشخصي فبينوا هتك اتهامنا ، و نعتناكم بالعُقر و الجُدب فبرهنوا على سوء نعتنا، و لم نتجرأ بعد على الحكم عليكم ببطلان النوايا، فنرجوكم ألا تدفعوننا لفعل ذلك.