الخميس، 24 نوفمبر 2011

دلالات إدانة اللجنة الثالثة للنظام الأسدي



بالرغم من أن إدانة لجنة الجمعية العامة للأمم المتحدة للقضايا الإجتماعية و الثقافية و الإنسانية  (أو ما يُسمى باللجنة الثالثة) هو رمزي القيمة، إذ إنه لا يحمل أي عقوبات و ليس له طابع إلزامي، فإن له دلالات معنوية و عملية جمّة.

أولاً إن هذا القرار يضيف النظام السوري لقائمة عارٍ كانت مكونة من ثلاث دول مُدانة من قبل هذه اللجنة و تضم إيران و كوريا الشمالية و بورما. و الحال أن هذا القرار يضع النظام السوري في قمة هذه القائمة، إذ جاءت إدانته لتكون الأشد من بين كل الإدانات، فبينما أدينت إيران عام 2007 بأغلبية 62 صوتاً مع القرار مقابل   50 ضده و إمتناع 55 عن التصويت، و أُدينت بورما عام 2009 بأغلبية 92 صوت مع القرار مقابل 26 ضده و إمتناع  56 عن التصويت، و جاءت إدانة كوريا الشمالية بأغلبية 97 صوتاً مع القرار مقابل 19 ضده و إمتناع 65 عن التصويت، فإن إدانة النظام الأسدي جاءت بأغلبية 122 صوت مع القرار مقابل 13 ضده و إمتناع 41 عن التصويت. كل هذا ليدل على عمق عزلة النظام السوري عن المجتمع الدولي و على فداحة سخط هذا المجتمع عليه و أيضاً على مقدار التأييد العالمي للثورة السورية.

و أيضاً جاءت قائمة الإتهامات الموجهة للنظام السوري لتكون الأقسى و لتتضمن التعديات الأكثر شناعة، فبينما أدينت إيران من أجل تعذيب المعتقلين، و أدينت كوريا الشمالية من أجل تضييقها على الحريات الفردية، و أدينت بورما من أجل الحكم التعسفي على الناشطة السياسية أونج سان سو كيي و وضعها مرة أخرى رهن الإقامة الجبرية ، جاء القرار الأممي ضد سوري ليتضمن  إتهامات أكثر عدداً و أفظع شناعة. هكذا أدان هذا القرار بشدة إنتهاكات السلطات السورية الخطيرة و المنهجية لحقوق الإنسان و التي تتضمن الإحتجاز ﺍﻟﺘﻌﺴﻔﻲ و الإخفاء القسري و أيضاً سوء معاملة و تعذيب و تنكيل المحتجزين و من بينهم أطفالٌ و ختمها بإستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين و المدافعين عن حقوق الإنسان و قتلهم ، و بهذا و ضع القرار النظام السوري في قمة الأنظمة الإجرمية.

و لكن برأيي أن الأمر الذي يحمل في طياته دلالات عملية جديرة بالإنتباه كان إمتناع كل من روسيا و الصين عن التصويت، و كلتا الدولتين كانتا قد إستخدمتا حق النقض لمنع صدور قرارٍ يدين النظام السوري في مجلس الأمن في الشهر الماضي . و بما أن الموقف الموقف الصيني من القضية السورية هو لاحق بالموقف الروسي و يتغير بتغيره، لذلك سأركز على هذا الأخير. حاولت روسيا في الأشهر الثمانية الماضية حماية "الحليف" السوري من "تدخلٍ" غربي و أستخدمت لهذا حجة لا أظنها كانت مقتنعة بها هي نفسها و هي أن الحكومة السورية تقاتل عصابات مسلحة و ليس مظاهرات سلمية، و لهذا عندما نقضت في مجلس الأمن الشهر الماضي المشروع الأوروبي الرامي لإدانة النظام كانت واحدة من حججها أن المشروع لا يدين عنف المعارضة أيضاً، و كأنها بهذه الحجة تساوي بين عنف المعارضة و عنف النظام. غير أن إمتناعها عن التصويت أول البارحة جاء ليدل على أن روسيا إبتدأت تغير خطابها المعلن،  و أنها أبتدأت تقبل فكرة الضغط على النظام السوري. فإمتناع الدول عن التصويت في مثل هذه الحالات لا يعبر عن رفضها لفحوى للقرار بقدر ما يعبر عن تحفظها على الأمور الإجرائية المتعلقة بآلية إتخاذه. أي بكلامٍ أخر إذ أن روسيا ترى أن المكان الأنسب لإدانة إنتهاكات حقوق الإنسان هو مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة و الذي مركزه جنيف، فإنها توافق على أن النظام السوري إقترف الجرائم المنصوصة عليها في نص القرار و تقبل بإدانته على نحو إستثنائي من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. لا شك أن هذا يعتبر تطوراً ملحوظاً في الموقف المعلن للإدارة الروسية و أنها أبتدأت تقبل فكرة الضغط على النظام السوري و  فرض عقوباتٍ عليه.

طبعاً لم يكن هذا التغير مفاجئاً للعارفين بخفايا السياسة الدولية خصوصاً بعد إدانة جامعة الدول العربية للنظام السوري و الزيارة الناجحة التي قام بها وفد المجلس للوطني إلى موسكو و أيضاً  تصريحات بوتين الأسبوع الماضي أثناء مؤتمره الصحفي الذي عقده في باريس بعد لقائه مع رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون. إذ بعد سؤال طُرح إليه عن أسباب إعتراض روسيا على قرار من مجلس الأمن بخصوص سوريا أجاب "روسيا على تمام المعرفة بأن الآليات السياسية التي كانت تستخدم منذ  40سنة لم تعد صالحة الآن. هذا صحيح في كل البلدان بما فيها سوريا. ما أرجوه أن تفهم القيادة السورية ذلك، و تستنتج منه الإستنتاجات الملائمة." ثم تابع يقول: "نحن نعلم أن شركاءنا الأوربيون (فرنسا و بريطانيا و ألمانيا)  قد أحالوا مشروع قرار للأمم المتحدة. و الحق أن أصدقاءنا الأوربيون فعلوا ما فعله محمود عباس ليكتسب الإعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، إنهم إتبعوا نفس الطريق، قد يكون ذلك أمرا جيدا ليوفر المرء الدعم لموقفه. سنتابع هناك التطورات اللاحقة بعناية، و سنستمع إلى ما لدى أصدقائنا ليقولوه، و سنحافظ على الحوار مع الجميع."

 إذاً إن كل هذا يدعوننا إلى الإعتقاد أنه حان أوان عودة القضية السورية إلى أروقة مجلس الأمن مرة أخرى و أن روسيا هذه المرة لن  تعطل أي قراراً من مجلس الأمن لا يفتح المجال بإستخدام القوة بتهور ضد سوريا. هذا ما أوحى به بوتين نفسه الإسبوع بقوله : "نحن على استعداد للتعاون مع المجتمع العالمي، وسوف نفعل ذلك. لكننا ندعو لضبط النفس والتعقل. هذا هو ما يتمحور موقفنا حوله. أي أننا لن نتهرب من التعاون مع شركائنا أو نتجاهل آراءهم، بل سنواصل العمل معا."

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

الدبلوماسية الروسية نسر ذو رأسين



أُستخدمت صورة النسر ذي الرأسين مراراً في التاريخ، و و لكنها ارتبطت أكثر ما ارتبطت بالأمبراطورية البيزنطية و بخليفتها الإمبراطورية الروسية كرمز لقوتها و عظمتها و كتعبير عن ثنائية سلطة الإمبراطور المدنية و الدينية. و لكن عندما تخلص السوفييت من الإمبراطورية الهرمة تخلصوا من كل بقاياها بما فيها هذا الرمز مستبدلين إياه بعلامة المنجل و المطرقة. إستعاد بوريس يلسين صورة النسر ذي الرأسين كرمزاً للدولة الروسية، و ذلك تعبيراً عن حنينه للإمبراطرية  الغابرة ودلالة على شوقه لإعادة نفوذ روسيا على الشرق و الغرب، و لكنه وضع عليه ثلاثة تيجانٍ كرمزٍ للسلطات الثلاث أعني التنفيذية و التشريعية و القضائية.

مع إستلام دميتري ميدفيديف لرئاسة الدولة عادت صورة النسر ذي الرأسين لتتكرر عند التكلم عن الحكومة الروسية، أما الرأسان هذه المرة فلم يعودا يرمزان إلى الدولة و الكنيسة أو إلى الشرق و الغرب، بل إلى رأسي السلطة الروسية أعني رئيس الجمهورية  دميتري ميدفيديف و رئيس مجلس الوزراء فلاديمير بوتين. إذ إن بوتين بعد أن حكم روسيا فترتين رئاسيتين (ثماني سنوات)، و لم يعد بإمكانه الحكم لفترة رئاسية ثالثة على التوالي عمل على إنجاح تلميذه و حليفه ميدفيدف في الإنتخابات الرئاسية. و لكنه في الوقت عينه  لكي لا يترك الحكم استحوذ على رئاسة حزب روسيا المتحدة الذي تأسس بمباركته في عام 2001، و الذي له ثلثي أصوات الدوما، و بذلك ضمن بقاءه في الحكم كرئيس لمجلس الوزراء. هكذا أصبحت روسيا محكومة برئيس جمهورية ليبرالي منفتح و ذي نزعة إصلاحية على النمط الغربي و كاريزما من نوع خاص. و لكن في الظل هناك رئيس مجلس وزراء محافظ، نظرته إلى روسيا شبه شوفينية، و هو يعتبر نفسه أباً لروسيا الحديثة، و أعوانه متغلغلين في كل مفاصل الدولة الروسية و كأنه إخطبوط بثمانية أذرع.

لم تكن العلاقة بين بوتين و ميدفيديف قائمة على خضوع أحدهما للآخر، فلا التلميذ خضع لمعلمه و لا المواطن الأول خضع لرئيس دولته، بل قامت العلاقة بين الإثنين على شبه لعبة شد حبل ودية يستمتع كلاهما بلعبها، فكل واحد يريد أن يسحب الحبل لجهته و لكن من غير أن يمزقا الحبل أو يُزعل أحدهما الآخر.

هكذا ظهر التباين بين الإثنين منذ البداية، فبينما كان بوتين يتهم الولايات المتحدة "بأنها أدخلت العالم من لُّجة نزاع إلى أخرى."، كان ميدفيديف يتصل بالرئيس أوباما ليهنأه على حصوله على جائزة نوبل مادحاً العلاقة بين روسيا و أمريكا القائمة على "مبادئ المساواة و الإحترام المتبادل لمنفعة السلم العالمي و الإستقرار". و أيضاً لم يتوان ميدفيديف في خطابه الرئاسي عن حال الإتحاد في شهر تشرين الثاني عام 2009 عن توجيه بعض النقض للحكومة التي يرأسها بوتين بقوله أنه على الحكومة أن تعترف بالخطأ بسبب الصعوبات الناجمة عن الأزمة الإقتصادية، و بدعوته إلى سياسة خارجية أقل رعونة.

و لكن تجسدت هذه الثنائية في السياسة الروسية، أكثر ما تجسدت في موقف روسيا من الربيع العربي، ففي الطرف الأول يقف ميدفيديف و مبعوثه للشرق الأوسط و شمال أفريقيا ميخائيل ميرغيلوف و في الطرف الثاني هناك بوتين و وزير الخارجية سرغي لافروف.

هكذا عندما صدر قرار من مجلس الأمن في شهر آذار الماضي يدين ليبيا و يفرض عليها حظراً جوياً، سارع بوتين إلى القول أن هذا القرار هو "دعوة لحملة صليبية من العصور الوسطى"، بينما رد عليه ميدفيديف بإمتعاض قائلاً أن هذا القول غير مقبول و يقود على حد تعبيره إلى "صراع حضارات"، ثم أكد ميدفيديف موقفه هذا عند إنضمامه إلى مجموعة الثمانية في دعوة القذافي للتنحي عن الحكم في ختام القمة التي اعقدت في مدينة دوفيل في فرنسا في شهر أيار. على صعيد مماثل بينما كان لافروف يدين إرسال فرنسا و بريطانيا لطائرات لتطبيق الحظر الجوي على ليبيا، كان ميرغيلوف يقول أن القذافي "فقد كل حقٍ أخلاقي بالبقاء في السلطة" بعد أن أطلق النار على شعبه و قصفه بالقنابل.
 
في الحقيقة نبع هذا الإختلاف في رؤية الفريقين للأزمة الليبية من إختلاف رؤيتهما للأخلاقيات السياسية  و لتباين نظرتهما للواقعية السياسية، فبينما يرى ميدفيدف أنه من دواعي الأخلاق أن يتنحى الرؤوساء عن الحكم عندما لا يستطيعون تأمين حاجات شعوبهم، وأنهم يفقدون شرعيتهم إذا مارسوا العنف ضد أبناء بلدهم، يرى بوتين أن الدول لها إستقلاليتها و لا يحق لأحد التدخل بشؤونها الداخلية. أما فيما يتعلق بمفهوميهما للواقعية السياسية فكلاهما يؤمن أن روسيا يجب ألا تنعزل عن العالم و ألا تدعم الحكام الديكتاتوريين حتى النهاية على حساب مصلحة روسيا.  و لكنهما يختلفان على تحديد الوقت المعقول الذي يمكن إعطاءه لهؤلاء الحكام قبل التخلي عنهم. فبينما يرى ميدفيديف أن الحكام الديكتاتوريين هم ساقطون حتماً إذا لم يتبعوا إصلاحات سريعة و فورية، و أن مصلحة روسيا هي في الوقوف بجانب الشعب لأنه هو الباقي، فإن بوتين و أعوانه ينظرون إلى أن الأنظمة و الدول يركضون وراء روسيا إذا لم تقف بجانبهم  في وقت الأزمات.

هكذا إستمرت هذه الثنائية في تعامل روسيا مع الثورة السورية. فبينما كان ميرغيلوف يقول لوفد المعارضة الذي زار موسكو في شهر حزيران الماضي برئاسة رضوان زيادة كلاماً مشجعاً "القادة تأتي و تذهب، السياسيون يأتون و يذهبون، الأنظمة الإجتماعية تأتي و تذهب و لكن ما يبقى صديقٌ وحيد موثوقٍ و دائم هو الشعب السوري"، كان لافروف يكرر إسطوانة النظام السوري قائلاً أن بين المتظاهرين "هناك الكثير من المشاغبين المسلحين" و تابع "أعتقد أنه ليس هناك من دولة تتحمل هذا التمرد الواضح"، ثم أردف أن قوى الأمن السورية تحاول تخليص المناطق السكنية التي يسيطر عليها عدد هائل من المسلحين. وبينما كان ميدفيديف يقول أنه إذا كان الأسد لا يستطيع الإصلاح فعليه التنحي، كان بوتين يحذر من التدخل في الأمور الداخلية لسوريا.

و السؤال الذي يطرح نفسه الآن لماذا إستطاع ميدفيديف و فريقه أن يجعلوا رؤيتهم تغلب في الملف الليبي، بينما يبدو أن بوتين و حاشيته يهيمنون على آلية إتخاذ القرار فيما يتعلق بالقضية السورية؟ للجواب على هذا السؤال يجب أن نبتدأ بتحليل الموقف الروسي من قرار مجلس الأمن 1973 . فروسيا لم توافق على ذلك القرار بل إمتنعت عن التصويت، و كان ذلك لسبيبين، أولهما الإنقسام في الموقف تجاه هذا القرار داخل الإدارة الروسية، و ثانيهما توجيه رسالة للغرب مفادها بينما لا تدعم روسيا نظام القذافي و هي توافق على حماية الشعب الليبي فإنها تسجل إعتراضاً على حيثيات القرار. أما الحيثية الأهم التي لم تستحبذها روسيا -و بالتخديد بوتين-  فكانت تضمن القرار على عبارة "العمل على تنفيذ القرار بكل الوسائل"- فهذ العبارة  تُبقي المجال مفتوحاً لكل الإحتمالات و من بينها العمل العسكري، أمرٌ لايفضله بوتين الذي يرغب في التحكم بكل شئ و لا يترك أي شئ لنوايا الآخرين التي لا يثق بها..

و لكن ما أثار غضب بوتين لم يكن القرار بحد ذاته، بل الطريقة التي تعامل بها ساركوزي مع هذا القرار. فساركوزي بعث بثلاث طائرات حربية لتقذف دبابات ليبية متوجهة إلى بنغازي ثلاث ساعات قبل بدء الحملة العسكرية الرسمية على ليبيا بدون أن يُخبر قادة دول الناتو، و ذلك ليضع بصمته على هذه الحملة أو بكلام آخر ليعلن نفسه نابليوناً جديداً. هذا هذا ما أثار حفيظة تركيا فأعلنت على لسان رئيسها أن بعض الدول تتصرف بإنتهازية و "تظهر سلوكاً أرعناً مما يثير شكوكاً من دوافع خفية"، و أغضب رئيس الوزراء الإيطالي في ذلك الحين سيلفيو برلسكوني -صديق بوتين الشخصي-  دافعاً إياه ليهدد بمنع الناتو من إستخدام القواعد العسكرية الموجودة في إيطاليا و متهماً ساركوزي بإستغلال الناتو. إذاً كيف لكل هذا ألا يثير حنق بوتين، فهل لقيصرٍ أن يقبل بنابليون جديد، و هو ضابط الإستخابرات السوفيتي السابق و الذي يطمح بإستعاد الإرث السوفيتي، فمثل هذا الفعل ما كان ليحدث أيام الحرب الباردة، و لو حدث لأشعل صفارات الإنذار و و أشغل خطوط الهاتف السرية  في كل أنحاء العالم.

إن هذا ما جعل بوتين و أعوانه يستعيدون سيطرتهم على آليات القرار في مجلس الأمن القومي الروسي ساحبين البساط من تحت ميدفيديف و فريقه. هكذ أصبحت و زارة الخارجية الروسية برئاسة لافروف و مساعده ميخائيل بوغدانوف و طبعاً من ورائهما بوتين  تهمين على الملف السوري، فإذاً ما هي المنهجية التي تتبعها وزارة الخارجية الروسية مع القضية السورية.

وفقاً لعقيدتها في الواقعية السياسية حاولت وزارة الخارجية الروسية البوتينية الهوى أن تعطي حليفها و قتاً معقولاً -بحسب مفهومها لما هو معقول- لهذا حاولت أن تحميه بقدر ما إستطاعت من الضغط الغربي. و لكنها في بحثها عن حُجةٍ تبرر بها أمام المجتمع الدولي دفاعها هذا عن نظام الأسد وجدت ضالتها في حادثة جسر الشغور حيث قتل أهل الجسر 120  جندياً و في الحوادث التي تلت في حمص و التي تورط فيها مدنيون مسلحون. إذ من خلالها بدأت تحتج أن حوادث سوريا ليست ثورة سلمية، بل هي عصيان مسلح، و إبتداء لافروف يروج لحجة العصابات المسلحة و كأنه أحد شبيحة النظام.

و لكن بالرغم من ذلك فإننا يجب أن ندرك أن روسيا لن تدعم الأسد حتى النهاية، فبوتين لا يحب الأغبياء و لا الخاسرين، و الآن و خصوصاً بعد إدانة جامعة الدول العربية له فإن بشار الأسد يبدو غبياً و خاسراً. ثمّ إن روسيا كانت تعوّل على الحوار بين نظام الأسد و المعارضة لإيجاد مخرج للأزمة السورية الحالية من دون اللجوء إلى تدخلٍ خارجي، و هي وجدت في المبادرة العربية ضالتها، و لكن مع فشل المبادرة و وضع جامعة الدول العربية مسؤولية هذا الفشل على النظام، فإن أي فكرة لحوارٍ مثل هذا قد زالت نهائياً. إذاً لم يبق أمام روسيا و العالم  سوى إقناع الأسد بالتخلي عن الحكم لمنع حدوث أي حرب أهلية و لتجنب الحاجة لأي تدخل خارجي. هذا هو عينه جوهر الرسالة التي يجب أن يوجهها للإدارة الروسية -و بالتحديد للافروف وزير الخارجية الروسية- وفد المجلس الوطني السوري الذي يزور موسكو في الآن.

الجمعة، 11 نوفمبر 2011

هكذا ماتت المبادرة العربية، فماذا بعد؟



عندما حاولت الدول الخليجية تجميد عضوية النظام السوري في الجامعة العربية لاشك أنها كانت صادقة في ذلك. و هي إندفعت إلى ذلك لأنها ملّت من نظام لا يفهم و لا يتفهم، فهذه الدول كانت تحت ضغوط كبيرة أولها من شعوبها التي كانت ترى أخوتها و شركائها في الإيمان تُذبح على يد نظام تراه دخيلاً على هذا الإيمان، وثانيها الضغوط من الدول الغربية التي لم تستطع معاقبة هذا النظام على أفعاله المثيرة للإشمئزاز عبر المحافل الدولية نتيجة النقض الروسي، لذلك أرادت أن تحرج روسيا عبر إدانة عربية لهذا النظام. وهي أرادت أيضاً من خلال هذه الإدانة أن تعطي ضوءً أخضر لتركيا لتقوم بمزيد من الإجراءات لتزيد عزلة النظام السوري.

لم يكن مستغرباً عدم نجاح محاولة التجميد هذه، فمثل هذا القرار أتخذ مرتين فقط منذ نشأت جامعة الدول العربية. المرة الأولى كانت عندما وقعت مصر إتفاقية كامب ديفيد، و فعلت الدول العربية هذا لإرضاء شعوبها التي لم تكن جاهزة لمثل هذه الإتفاقية. أما المرة الثانية  فكانت عندما علقت الجامعة عضوية ليبيا  قبل بضعة أشهر، إذ كان هناك إجماعاً دولياً للتخلص من نظام القذافي. غير أن مثل هذا الإجماع لم يتوفر بعد في حالة الأسد، مما أعطى بعض الدول العربية الفرصة لرفض هذا التجميد . بالإضافة لهذا فإن هذا التعليق كان يتطلب إجماع الدول العربية، و طبعاً بالإضافة لأمين جامعة الدول العربية نفسه -السيد نبيل العربي- ما زال هناك بعض الدول العربية التي لم تقتنع بعد بأن النظام السوري عليه الرحيل، لا بل إن بعضها سيدعمه على قدر إمكانه كالعراق، و ذلك لأسباب جيوسياسية معروفة.

هكذا و لما لم يكن من الممكن تجميد عضوية سوريا في الجامعة، لجأ وزراء خارجية دول الخليج و بالتحديد وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني -إذ إنه كان قائد الجوقة الساعية  لمعاقبة الأسد- إلى الخطة رقم 2 .  و تضمنت هذه الخطة شروطاً من الصعب أن يقبلها النظام السوري كأن يتضمن وفد المعارضة معارضين من الداخل و الخارج و أن تجري المفاوضات بين النظام و المعارضة  في مقر الجامعة العربية و برعايتها، و أيضاً وضع مهلة ١٥ يوم للتنفيذ، و أخيراً سمى قطر كمراقب على تنفيذ الدعوة.

لم تكن توقعات وزير خارجية قطر بالخاطئة، فقد سارع السفير السوري لدى الجامعة العربية يوسف أحمد إلى إعلان رفض سورية للبيان جملة وتفصيلا و أن يعتبره عملاً عدائيا وغير بناء في التعامل مع الأزمة السورية. ثم تجاهل النظام السوري المبادرة العربية كلية و استمر بممارسة أعمال العنف و القتل و قصف المدن، أو بالأحرى تعمد تصعيدها أملاً منه بالقضاء على الثورة خلال مهلة الخمسة عشر يوماً التي أعطيت له، كل هذا ليدل على أن النظام لا  يؤمن إلا  بالحل الأمني حتى النهاية. و لكن هيهات فتصميم الشعب على أخذه حريته بيديه هي أقوى من جبروت الآلة العسكرية للنظام.

استمر تجاهل النظام السوري للمبادرة العربية حتى بعد زيارة اللجنة الوزارية المكلفة بمتابعة الوضع في سوريا لدمشق في 26 تشرين الأول و برغم طلبها جواباً رسمياً من سوريا على المبادرة العربية، إذ إنه خُدع بالودية التي أبداها أعضاء اللجنة خلال هذه الزيارة بمن فيهم رئيسها الشيخ حمد بن جاسم. هكذا لما أتى الوفد السوري إلى لقاء اللجنة الوزارية في الدوحة في 30 تشرين الأول لم يأت بجواب رسمي، بل أتى بمجموعة من التحذيرات و من ضمنها تهديد الأسد بحصول زلزال كبير في المنطقة إذا سمحت الجامعة العربية بتدخل الغرب في سوريا.

غير أنه عندما ردّ الشيخ حمد بن جاسم على تهديد الأسد بقوله أن المنطقة الآن "كلها معرضة إلى عاصفة كبيرة ومن المهم أن يعرف القادة العرب كيفية التعامل معها ليس بالاحتيال أو باللف أو الدوران وإنما بالإصلاح الجاد الذي يخدم الشعوب." و أيضاً عند أكد أن مجلس الجامعة العربية في اجتماعه الأربعاء (2 تشرين الثاني) "سيكون سيد قراره في هذه الموضوع،" وأن اللقاء سيحصل "سواء تم الاتفاق على الورقة أو لم يتم." أدرك النظام السوري عمق الهوة التي هو فيها.

هكذا عمل النظام السوري على تدارك نفسه، فجهزخلال 24  ساعة مجموعة من التعديلات التي تتيح له التعامل مع المبادرة بتغيير مصطلحات مثل استبدال سحب الجيش بإنهاء كل المظاهر المسلحة في المناطق الآهلة بالسكان، واستبدال وقف عمليات قتل المتظاهرين بوقف العنف من كل الاطراف والافراج عن معتقلين من الازمة الراهنة بدلا من كل المعتقلين و ترك مكان الحوار غير محدد. و تم إقرار هذه التعديلات بعد أن أصّر الوفد السوري على مقابلة أمير قطرالشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الذي لم يدرك تماماً الفخ الذي كان حضره وزير خارجيته للنظام السوري، فأُفرغت المبادرة العربية من محتواها، و تابع النظام السوري سياسية القتل و قصف المدن. هكذا اعتبر وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه أن مبادرة الجامعة العربية للحل في سوريا قد «ماتت»، مؤكدا أن الدول العربية تتحمل مسؤولية «كبرى» تجاه الوضع في سوريا.

أما كيف تعامل المجلس الوطني السوري مع المبادرة فهذا حديث يطول، و لكن بإختصار سنحت للمجلس العديد من الفرص ليصوّب سهاماً في قلب النظام و ويعمق الشرخ  بين  النظام والدول العربية فلم يستغلها. و أيضاً ظهر المجلس و كأنه لا يتفهم الواقع و محدوديات الدول و الجامعة العربيتين فيما يمكنهما تقديمه له و للثورة السورية، مما جعل بعض الأطراف العربية المؤيدة له تتململ منه، و دعا أمين عام الجامعة العربية للإجتماع بفصائل أخرى من المعارضة السورية، و كأنه يوجه رسالة غير مباشرة للمجلس ليكون أكثر حذراً و أكثر دبلوماسية.  و جاء إعتداء أنصارالمجلس الوطني على أعضاء من هيئة التنسيق الوطنية أثناء دخولهم لمقابلة أمين الجامعة العربية، لتشوه سمعته و سمعة الثورة السورية بعض الشئ.

كل هذا يجعلنا ننتظر ببعض القلق و التوجس البيان الذي سيصدر عن الإجتماع الطارئ لجامعة الدول العربية الذي سيجري السبت القادم، و نتساءل "ماذا بعد؟"

الخميس، 10 نوفمبر 2011

الضرورة الملّحة لمزيدٍ من وحدة المعارضة السورية



هناك أنماط متعددة لوحدة الأحزاب أو الفصائل السياسية، و لكن بشكل عام  يمكن تصنيفها بنمطين أساسيين: الوحدة الإندماجية و الوحدة الإتلافية. في الوحدة الإندامجية تبغي الأحزاب تشكيل كيان واحد جديد ذي ديمومة  يستبدل الكيانات المتعددة السابقة، و يكون له فكر واحد و برنامج سياسي واحد بعيد المدى و هيكلية تنظيمية و تراتبية واحدتان، و هكذا تندمج القواعد و المؤسسات الحزبية السابقة في قاعدة و مؤسسات حزبية جديدة. واحد من أهم الأمثلة على هذه الوحدة الإندماجية هو اندماج حزب "التحالف الكندي" - و كان يمينياً متشدداً - مع "الحزب المحافظ التقدمي الكندي" - و كان يمينياً معتدلاً  - في عام ٢٠٠٣ و الذي نجم عنه حزب جديد باسم "الحزب المحافظ الكندي"، و الحزب الجديد حمل أفكاراً هي في الوسط بين أفكار الحزبين اللذين أساساه، ومن غير هذا الإندماج لم يكن ممكناً للمحافظين أن يربحوا انتخابات عام ٢٠٠٥  و هم مازالوا في الحكم حتى الآن 
.
أما في الوحدة الإتلافية فتجتمع الفصائل و الأحزاب السياسية تحت مظلة واحدة من أجل التنسيق و التعاون و التعاضد لإنجاز هدفٍ عملي ذو أجل وقتي، كربح إنتخابات أو قيادة مرحلة إنتقالية، لهذا فإن هذا الإتلاف وقتي، ينفك عقده مع تحقيق الهدف المنشود أو عند حصول خلافات لايمكن التوافق عليها بين فصائله. لهذا هو لا يحتاج إلى وحدة كلية بالفكر أو بالبرنامج السياسي البعيد المدى أو اندماج بالهيكلية التنظيمية أو التراتبية أو بالمؤساسات أو القواعد الجماهرية. لا بل يتطلب توحد رؤية لماهية الهدف المرحلي الوقتي المحدد الذي من أجله اجتمعت هذه الفصائل و آلية تحقيقه. و لهذا تشكل هذه الفصائل  قيادة للإتلاف مهمتها إدارة المعركة لصياغة الأطر العملية لتحقيق هذا الهدف و للإشراف على تنفيذها. أما هذه القيادة فتتكون من ممثلين عن الفصائل المشكّلة للإتلاف و يكون حجم التمثيل على مبدأ المحاصصة بحيث يتناسب تمثيل كل فصيل مع القوة الجماهيرية و العملية لهذا الفصيل. و يمكن أن تتفرع عن هذه القيادة مؤسسات و هيئات خاصة بالإتلاف مستقلة عن الهيئات و المؤسسات التابعة لكل فصيل من فصائله. مثال على هذا النوع من الإتحاد هو الإتلاف الحاكم في بريطانيا الذي يجمع "الحزب المحافظ" و  حزب "الديمقراطيين الليبراليين"  و اللذان يختلفان بالعقيدة فأحدهما محافظ و الآخر ليبرالي و إنما اجتمعا ليوقفا تقدم "حزب العمال". مثال آخر هو إتلاف روسيا الأُخرى” و الذي يجمع أحزاباً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار و أيضاً منظمات حقوقية، و هي اتحدت  لتقف في وجه حكم "بوتين" و شركائه 
فأي نوعٍ من أنواع  الوحدة هذه نريد للمعارضة السورية؟ في الحقيقة أننا عندما نتحدث عن وحدة المعارضة فإننا نعني وحدة إتلافية لا و حدة إندماجية. فإننا نريد لفصائل المعارضة أن تبقى مختلفة بمبادئها الفكرية مع أننا نرغب منها جميعاً أن تليّن من تحجرها العقائدي، لأن هذا التمايز الفكري إنما يعكس التنوع الفكري الطبيعي لأطياف الشعب السوري، و أيضاً لأن هذا التمايز هو مصدر غنى و حيوية داخل المجتمع السوري. و لكننا نريد من الفصائل التي وضعتإسقاط النظام سقفاً لها أن تتحد جميعاً تحت مظلة إتلاف واحد، فتتعاضد و تتعاون من أجل هذا الهدف. هذا الهدف الذي اختاره الشعب الثائر أيضاً سقفاً له. و بعد تحقق هذا الهدف نريد للأحزاب السياسية ذات الرؤى السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية المختلفة أن تنفصل وفقاً لتياراتها الفكرية لتتنافس في انتخابات حرة. إذ إننا كسوريين نرغب بأن يكون لنا خيار التصويت على أفكار و رؤى مختلفة نختار منها ما يعبّر عن آمالنا و تطلعاتنا .
  
قبل أن أتحدث عن أين تقف المعارضة من هذه الوحدة الإتلافية التي ذكرتها أنفاً، دعونني أحدد ماذا نعني باسقاط النظام. فاسقاط النظام يعني دفع الطغمة الحاكمة للتخلي عن الحكم و تقديم رؤوسائها و كل من ثبت أنه تورط مباشرة بدماء السوريين لمحاكمات عادلة، كل هذا مع الحفاظ على مؤسسات الدولة بما فيها الجيش، أما التركيبة الطائفية لهذا الجيش فيجب التعامل معها بطريقة حكيمة من قبل حكومة جديدة بعد انتخابات ديموقراطية. و أما الأجهزة المخابراتية فيجب لجم جماحها و منعها من التدخل في الحياة اليومية للمواطنين، على أن يتم تحويلها فيما بعد إلى هدفها الحقيقي و هو التجسس على الدول و المؤسسات الأجنبية. و أما الموالين للنظام و أتباعه فيجب عدم الإنتقام منهم، إذ نعرف أن أكثرهم يتبع النظام بسبب مصالح وقتية أو خوفاً من النظام أو خوفاً من المجهول، إذ إننا لن نتبع سياسة مشابهة لسياسة "التطهير" التي أتبعت بعد سقوط "حكومة فيشي" في فرنسا أو سياسة "اجتثاث البعث" التي اتبعها الأمريكيون بعد غزو العراق، بل سنتبع سياسة مشابهة لتلك التي اتبعها "مانديلا" بعد سقوط حُكم "الأبارتيد" عندما أسس ما أسماه "هيئة الحقيقة و التراضي"، فكل من لم يثبت أنه تورط مباشرة أو أعطى أمراً صريحاً بقتل السوريين الأبرياء فلن يعاقب، أما من اقترف هذا الجرم فإن كان من مناصري النظام أو معارضيه فستتم محاكمته في محاكم رسمية و وفقاً للقانون.

و لكن القضية الإشكالية التي تختلف عليها الفصائل التي اتخذت إسقاط النظام هدفاً لها ما زالت هي آليات هذا الإسقاط، فبينما ترى بعض الفصائل في العمل العسكري الدولي خيارها الأفضل، فإن بعضها الآخر يرى نقيض ذلك. و الحال أنني شخصياً لا أحبذ هذا الحل لأسباب عدة. من أول هذه الأسباب أن السوريين غيورون جداً على بلدهم، و هم سيرون في أي عمل عسكري مهما كانت طبيعته ليس فقط حرباً على النظام بل أيضاً اعتداءً على وطنهم و ليس أداة لتحريره. و لهذا سيصدقون ادعاءات النظام و سينظرون-بما فيهم الأغلبية الصامطة- إلي النظام على أنه ضحية لقوى أجنبية غاشمة -تماماً أن بلدهم هو ضحيّة- و هكذا سيلتفون حول النظام و سيصبح رمزاً لقضيتهم الوطنية. ثانياً إن أي عمل عسكري قد تكون له نتائج كارثية ليس فقط على البنية التحتية للبلد بل أيضاً على الأرواح، فأي ضربة طائشة قد يكون ثمنها كبيراً نظراً للكثافة السكانية العالية في بعض المناطق. و أيضاً فإن النظام بطبيعته انتقامي، لذلك فإنه من السذاجة بمكان الإعتقاد بأن النظام سيكتفي بالدفاع عن نفسه إذا ما هوجم، إذ إنني أرى أن أول ماسيفعله النظام هو الإنتقام من الشعب الثائر، إننا نرى عينة عن هذه الروح الإنتقامية بإعتقاله لأقارب خصومه السياسيين و تعذيبهم ، و أيضاً بإرساله عناصر حزب العمال الكردستاني للإعتداء على الجنود الأتراك عند أي ضغط إضافي تمارسه عليه تركيا. و أخيراُ و ليس آخراً فإذا ما نظرنا إلى هذا الموضوع من خلال معايير الواقعية السياسية فسنجد أن فكرة العمل العسكري غير ممكنة، فروسيا تعترض على هذا الموضوع قلباً و قالباً و ذلك لأسباب بعضها و معقول و و بعضها الآخر غير واقعي. لهذا فإنني أدعو أصدقائي من المجلس الوطني بالتفكير جدياَ في موقفهم من هذا الموضوع و بالتوقف عن الدعوة إلى أي عمل عسكري جهاراً  إذ إن ذلك سيؤدي إلى نفور بعض السوريين من المجلس و الثورة معاً و أيضاً إلى مواقف عكسية نحو الثورة من قبل بعض الدول العالمية و أهم من ذلك إلى المزيد من الخلافات و التشتت بين فصائل المعارضة.

دعونا الآن نقوّم إلى أين وصلت وحدة المعارضة وفق معيار الوحدة الإتلافية الرامية إلى إسقاط النظام و التي حددناه آنفاً في هذا المقال. لاشك أن المعارضة قطعت خطوات كبيرة -بالرغم أنها جاءت متأخرة بعض الشئ-  في طريق توحدها على الصعيدين التنظيمي و الفكري. فمن الناحية الفكرية و بعد أن ترددت كثير من الفصائل برفع شعار إسقاط النظام، ها هي بدأت تقتنع و تنادي به، كل هذا بعد أن اكتشفت أن النظام مخادع و معند على أي إصلاح. و لكن الرؤى لكيفية اسقاطه مازالت متباينة أو غير واضحة في بعض الحالات ، لذلك فإن  التحدي الآن هو بناء استراتيجية واضحة لإسقاط النظام تتفق عليها فصائل المعارضة كلها إذا أمكن.  أما على الصعيد التنظيمي فها نحن أمام فصيلين أساسيين من فصائل المعارضة هما هيئة التنسيق الوطنية و المجلس الوطني السوري بعد أن كنا نتكلم عن بضع عشرات من الفصائل من مدة ليس ببعيدة، كلا الفصيلان قاما على أساس إتلافي من أجل التعامل مع الأزمة السورية الحالية. إن هذا يعد إنجازاً كبيراً في تاريخ المعارضة السورية، هذه المعارضة التي طالما فتتتها الخلافات العقائدية و الشخصية و شلّتها فقدان الواقعية و الروح العملية، و لكن ها هي اليوم تتحلى بشئ من الرشاقة و الحيوية.

و كانت هذه الفعالية جلّية في المجلس الوطني السوري، إذ إنه استطاع أن يضم تحت لوائه فصائل ذات رؤىً فكرية متنوعة بعضها متشدد في يمينيته و بعضها الآخر واضح في يساريته و جزء ثالث يتراوح فيما بينهما، و هذا إن دلّ على شئ فهو يدلّ على أن الفصائل التي انضوت تحته تخلّصت إلى حد معقول من صلابتها العقائدية و اكتسبت واقعية سياسية. و الحال أن أهمية هذه المرونة العقائدية و الليونة السياسية لا تقتصر فقط على مرحلة اسقاط النظام، بل تمتد لما بعده، إذا إن هذه الفصائل إذا ما استمرت على هذه الواقعية و الليونة فإنها ستكون عامل استقرار في الحياة السياسية السورية على المدى المتوسط و البعيد، شئ لم يشهده هذا البلد الحبيب حتى في الفترات التي تمتع بها بدرجة معقولة من الديمقراطية أي في العقد و نيف الذي تلا الإستقلال
مجالٌ آخر تجلّت فيه فعالية المجلس الوطني هو المجال الدبلوماسي، فقد استطاع في أسابيع قليلة أن يحشد للثورة السورية و لنفسه تأيداً كبيراً على الصعيدين العربي و العالمي. هكذا رحبت به كثير من الفعاليات و الدول في آسية و إفريقيا و أوربة و أمريكا، و استضافته بعضها كتركيا، و اعترف به البعض الآخر كالمجلس الإنتقالي الليبي. و لم يقتصر الأمر على الإعتراف و الترحيب فطرحت الدول الخليجية مستجيبة لجهود منه فكرة تجميد عضوية النظام السوري في الجامعة العربية، و سلّمه المجلس الإنتقالي الليبي السفارة السورية في طرابلس ليقوم بالإشراف عليها بعد أن كان طرد أعوان النظام السوري منها ، و كأن الليبيين يعترفون به كحكومة في المنفى.
 
و السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو "هل هناك ضرورة لمزيدٍ من التوحد في صفوف المعارضة؟"، و الجواب على هذا السؤال هو "بلا أدنى شك، نعم". تنبع أهمية هذا التوحد من أربعة أسبابٍ رئيسية. أولها هو أنه بالرغم من الترحيب الذي لاقاه المجلس في العواصم العربية و العالمية فإنه سمع نصائح من بعض هذه العواصم تدعوه لتوسيع قاعدته الجماهرية  باتحاده مع قوى معارضة لها حضور كبير في الداخل .أما ثانيها فهو قطع الفرصة على النظام و بعض القوى العالمية المؤيدة للنظام من اللعب على الإختلافات بين أطراف المعارضة لإخماد شعلة الثورة. و ثالثها هو إيقاف المماحكات السخيفة التي شاهدناها في الأسابيع الماضية بين بعض الشخصيات المنتمية لأطراف متفرقة من المعارضة، فهذه المماحكات لن تؤدي إلا  إلى استنفاذ غير مجدي للطاقات و ربما أيضاً إلى نفور الشباب من الثورة. أما آخرها و أهمها هو أن الثورة السورية من خلال المجلس الوطني حققت أرباحاً مهمة على الصعيد الخارجي، بينما الوضع الداخلي يتجه إلى الصعوبة و التعقيد، فدعوات تسليح الثورة و أيضاً تشجيع النظام على هذا التسليح ساعدا على ظهور جماعات مسلحة أشبه بالعصابات، استغلت الفرصة لتمارس هوايتها في الخطف و التنكيل و القتل، مما شوّه بعض الشئ الصورة الجماهرية للثورة، و حوّل بعض المناطق كمدينة حمص إلى أشبه بساحة قتال و مسرح مصّغر لحرب أهلية .كل هذا يحتم على المعارضة رص صفوف الداخل للحفاظ على جذوة الثورة و نقاوتها و ليبعد عن البلد شبح حربٍ أهلية ممكنة.