لا شك أن المعارضة التقليدية (الأحزاب السياسية التقليدية) تفاجأت بالثورة كما تفاجاء بها أغلب السوريين. هذه المعارضة التي كانت في الأصل مشلولة بسبب تصلبها العقائدي و الخلافات الشخصية التفاهة بين أفرادها و أيضاً بسبب محاربة النظام لها و خبثه الذي استطاع من خلاله الاستفادة من هذه الخلافات لزيادة تشرذمها وتعميق عجزها. هكذا جاء تفاعل المعارضة التقليدية مع الثورة بطيئاً، فمثلا إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي و هو التنظيم السياسي الأكبر داخل القطرفي ذلك الحين أنشأ صفحته للتفاعل الإجتماعي بعد مضي ثلاثة أشهرعلى بدء الثورة و هذه الصفحة لم تستقطب الكثير من الناس رغم الحماسة الأولى لها لأنها عجزت عن طرح قضايا مهمة متعلقة بالثورة. أما الأحزاب الأخرى فإن معظمها تجمع بعد مضي الكثير من الوقت تحت مظلة هيئة التنسيق الوطني و بقيت هذه الهيئة من غير حراك سياسي فعال يذكر. أما الشخصيات السياسية المستقلة فلقد انكفأت عن طرح أي مبادرة سياسية تذكر بعد مؤتمرها الناجح نسبياً في مؤتمرها الذي عقدته تحت شعار " سوريا للجميع" في فندق سميراميس، و ذلك ربما لأنها راهنت على التفاوض مع نظام لا ينظر بالأصل إليها على أنها ندّاً، و أراد من خلالها أن يتحايل على الشعب ليحبط ثورته. هكذا فكل هذا يدّل على عجز الأحزاب و الشخصيات السياسية التقليدية ليس فقط عن التوحد و وضع إطار سياسي للثورة بل أيضاً عن مواكبة أحداثها و إدراك حيثياتها.
لكن هناك طائفة أخرى من المعارضة ظهرت في السنوات العشر الماضية، و هذه الطائفة تمثلت بالنشطاء الحقوقيين. هذه المعارضة التي لم تعتد على العمل السياسي والتنظيم الحزبي بالمعنى التقليدي. في الحقيقة هذه الطبقة من المعارضين هي كانت الأكثر نشاطاً خلال السنوات العشر الماضية، وهي التي تعلّمت كيف تخاطب الرأي العام العالمي وتحاكي وسائل الإعلام. و الأهم من ذلك أنها هي التي كانت تنتظر بدء هذه الثورة و تتوقع حدوثها، أو بالأحرى هي التي حاولت إيقاظ الشعب ليثور على جلاده و ساهمت بشكل من الأشكال في بدء هذه الثورة. و السؤال لماذا لم تعمل هذه الطبقة على صياغة الإطار السياسي للثورة، هذا الإطار الذي كان ضرورياً لقيادة معركة سياسية فعّالة ضد النظام للإسراع بإسقاطه وقيادة مرحلة إنتقالية تحقق للشعب طموحاته
.
قبل أن أجيب على هذا السؤال دعونني أوضح ماهية مساهمة هؤلاء النشطاء الحقوقيين في بدء الثورة. لاشك أن السبب الأساسي للثورة كان امتلاء الشعب بالحنق على النظام، هذا الحنق الذي تراكم على مدى عقود من الحرمان الإقتصادي و امتهان الحريات. ولا شك أن شرارة انطلاق الثورة كان احتجاز الأمن للأطفال في درعا و تعذيبهم و قلع أظفارهم. و لكن ما كان لهذه الثورة لتنتشر لولا وسائل التفاعل الإجتماعي (الفيسبوك) و وسائل الإعلام التقليدي (قناة الجزيرة)، و هذه كان قد تمّ تجهيزها قبل بدأ الثورة، و الذين قاموا بتجهيز كل هذا كان النشطاء الحقوقيين.
و السؤال الآن لماذا لم يساهم هؤلاء النشطاء الحقوقيين في تجهيز الوسط السياسي للتفاعل مع الثورة بشكل فعّال أو التحضير لمبادرة تسد الفراغ السياسي الذي رافق هذه الثورة؟ في الحقيقة حاول النشطاء الحقوقيون طرح بعض المبادرات و صياغة بعض الأطر السياسية، و لكن هذه المبادرات و الأطر جاءت ساذجة أو ناقصة.
هكذا أتت أولى المبادرات في ٢٩ نيسان بواسطة رضوان زيادة و رفاقه تحت عنوان "المبادرة الوطنية للتغيير من أجل تحول آمن نحو الديمقراطية في سوريا". هذه المبادرة ارتكزت على الافتراض أن بشار سيدرك حقيقة المأزق الذي هو فيه، و سيستقيل فوراً بعد بدأ الإنتفاضة ليجنب البلاد الخراب و العباد زهق الأرواح مسلّماً الحكم بطريقة سلمية لوزير الدفاع في ذلك الحين العماد علي حبيب. طبعاً كانت هذه المبارة من السذاجة بمكان، إذ إن طاريحها لم يكن لهم فهماً حقيقياً لماهية النظام الأسدي الكّلي التملك و لطبيعة شخصية بشار التامة الانفصال عن واقعها. هكذا لم يستقيل بشار و اختار طريق المعاندة و التحدي و القسوة و الدمار، و ماتت المبادرة لسذاجتها.
بعد ذلك أتى مؤتمري أنطاليا )المؤتمر السوري للتغيير (و بروكسل) مؤتمر الائتلاف الوطني لدعم الثورة السورية(، و كان منظموهما من الأشخاص الذين شاركوا في التحضيرات للإنتفاضة السورية، مع ذلك جاءت مبادراتهم غير ناضجة من الناحية السياسية. كان من الواضح من خلال طريقة التنظيم لكلا المؤتمرين و طبيعة المدعويين أن كلا المؤتمرين لم يهدفا إلى صياغة اطار سياسي للثورة بل لتعبئة حشد شعبي للثورة. هذا الهدف لم يكن سيئاً بل ربما كان ضرورياً في ذلك الوقت، و لكن التوقف عنده كان غير كافٍ. أما لماذا لم تحاول اللجان المنبثقة عن هذه المؤتمرات السّعي لبناء الإطا ر السياسي الضروري لإنجاح الثورة بسرعة، فهذا ما أدعوهم للإجابة عنه، و لكن بالنسبة لي هو دليل سطحية سياسية.
ثم جاء مؤتمر الإنقاذ الوطني الذي وضع له منظموه هدفين: الأول بناء صورة لسورية مابعد الأسد و الثاني تشكيل حكومة ظل، و قد وضع المنظمون هذين الهدفين بناء على إعتقادهم أن سقوط النظام الأسدي آني، هكذا علينا أن نعبّأ المجتمع حول مشروع سوريا الجديدة و نسدّ الفراغ المؤسساتي الناجم عن سقوطه بحكومة ظليلة، ولكن المؤتمر فشل فشلاً ذريعاً، إذ إن فكرة تشكيل حكومة ظّل بعيدة كل البعد حتى عن المتطلبات الحالية للثورة، فالنظام الأسدي لم يكن آني السقوط و لا هو الآن و المعارضة لم تكن مهيئة لتشكيل أي كيان سياسي يدير عملها وذلك بسبب تشرذمها و ربما ليست هي الآن. والصورة التي حاول المؤتمر رسمها عن سوريا القادمة لم تكن بالمضيئة إذ اتسم المؤتمر بسوء التنظيم و بالتصرفات الصبيانية لبعض المشاركين فيه
.
و أخيراَ حصلنا على مجلسين واحد انتقالي و آخر وطني، كلاهما ولدا بولادة غير طبيعية، و كلاهما يدّعي تمثيلنا و يصارع الآخر على هذا التمثيل. و ها نحن مساكين حيارى لا نعرف من نصدق منهما، و لا نعرف أي واحد منهما يمثلنا فعلاً، أو حتى نشك إذا كان أي منهما يستحق تمثيلنا. هكذا نرى الدماء تسيل فتسيل أرواحنا معها، و نرى البلاد تتمزق فتتمزق قلوبنا معها. كل هذا بينما المجلسان يتصارعان على تمثيلنا، وهم غير شاعرين بنا والسؤال الذي نطرحه على أعضائهما كيف تدّعون تمثيلنا إذا كنتم لا تشعرون بنا.
هكذا لم يدرك السياسيون التقليديون و أشباههم الأكثر حداثة أهمية صنع إطار السياسي يساعد على انجاح الثورة و اسقاط النظام بسرعة قبل أن يتكبد الشعب الكثير من الضحايا أو تنحرف عن مسارها نحو حرب أهلية. و لم يفهم هؤلاء و أولئك أن اتساع امتداد الثورة المكاني والزماني سيستدعي تداخل الكثير من العوامل و تدخل العديد من الأشخاص فيها جاعلاً منها صعبة القيادة و فاتحاُ الباب عليها ليتسلقها الكثيرون. هكذا وصلنا لما وصلنا إليه الآن ثورة من دون قيادة تدير الحرب السياسية مع النظام للإسراع باسقاطه، و من غير ريادة ترسم لها أطرها لتمنعها الإنزلاق نحو حرب أهلية. كل هذا يدل على أن المعارضة السورية بمختلف أطيافها فاقدة للعمق السياسي و ناقصة بالنضج الشخصي أو لربما هي عقيمة و عديمة الثمر.
سمعنا أنه بعد اجتماعات دامت يومين في إسطنبول شاركت فيها قوى عدة من المعارضة السورية، تم الاتفاق على تشكيل المجلس الوطني السوري وسيعلن عن التشكيل النهائي خلال اليومين القادمين. لهذا فإننا نخاطبهم بقولنا: يا سادة القوم و أولياء أمورنا كنا قد وصفناكم بالسذاجة والسطحية السياسيتين فأثبتوا خطأ وصفنا، و اتهمناكم بنقص النضج الشخصي فبينوا هتك اتهامنا ، و نعتناكم بالعُقر و الجُدب فبرهنوا على سوء نعتنا، و لم نتجرأ بعد على الحكم عليكم ببطلان النوايا، فنرجوكم ألا تدفعوننا لفعل ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق