هناك أنماط متعددة لوحدة الأحزاب أو الفصائل السياسية، و لكن بشكل عام يمكن تصنيفها بنمطين أساسيين: الوحدة الإندماجية و الوحدة الإتلافية. في الوحدة الإندامجية تبغي الأحزاب تشكيل كيان واحد جديد ذي ديمومة يستبدل الكيانات المتعددة السابقة، و يكون له فكر واحد و برنامج سياسي واحد بعيد المدى و هيكلية تنظيمية و تراتبية واحدتان، و هكذا تندمج القواعد و المؤسسات الحزبية السابقة في قاعدة و مؤسسات حزبية جديدة. واحد من أهم الأمثلة على هذه الوحدة الإندماجية هو اندماج حزب "التحالف الكندي" - و كان يمينياً متشدداً - مع "الحزب المحافظ التقدمي الكندي" - و كان يمينياً معتدلاً - في عام ٢٠٠٣ و الذي نجم عنه حزب جديد باسم "الحزب المحافظ الكندي"، و الحزب الجديد حمل أفكاراً هي في الوسط بين أفكار الحزبين اللذين أساساه، ومن غير هذا الإندماج لم يكن ممكناً للمحافظين أن يربحوا انتخابات عام ٢٠٠٥ و هم مازالوا في الحكم حتى الآن
.
أما في الوحدة الإتلافية فتجتمع الفصائل و الأحزاب السياسية تحت مظلة واحدة من أجل التنسيق و التعاون و التعاضد لإنجاز هدفٍ عملي ذو أجل وقتي، كربح إنتخابات أو قيادة مرحلة إنتقالية، لهذا فإن هذا الإتلاف وقتي، ينفك عقده مع تحقيق الهدف المنشود أو عند حصول خلافات لايمكن التوافق عليها بين فصائله. لهذا هو لا يحتاج إلى وحدة كلية بالفكر أو بالبرنامج السياسي البعيد المدى أو اندماج بالهيكلية التنظيمية أو التراتبية أو بالمؤساسات أو القواعد الجماهرية. لا بل يتطلب توحد رؤية لماهية الهدف المرحلي الوقتي المحدد الذي من أجله اجتمعت هذه الفصائل و آلية تحقيقه. و لهذا تشكل هذه الفصائل قيادة للإتلاف مهمتها إدارة المعركة لصياغة الأطر العملية لتحقيق هذا الهدف و للإشراف على تنفيذها. أما هذه القيادة فتتكون من ممثلين عن الفصائل المشكّلة للإتلاف و يكون حجم التمثيل على مبدأ المحاصصة بحيث يتناسب تمثيل كل فصيل مع القوة الجماهيرية و العملية لهذا الفصيل. و يمكن أن تتفرع عن هذه القيادة مؤسسات و هيئات خاصة بالإتلاف مستقلة عن الهيئات و المؤسسات التابعة لكل فصيل من فصائله. مثال على هذا النوع من الإتحاد هو الإتلاف الحاكم في بريطانيا الذي يجمع "الحزب المحافظ" و حزب "الديمقراطيين الليبراليين" و اللذان يختلفان بالعقيدة فأحدهما محافظ و الآخر ليبرالي و إنما اجتمعا ليوقفا تقدم "حزب العمال". مثال آخر هو إتلاف “روسيا الأُخرى” و الذي يجمع أحزاباً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار و أيضاً منظمات حقوقية، و هي اتحدت لتقف في وجه حكم "بوتين" و شركائه
.
فأي نوعٍ من أنواع الوحدة هذه نريد للمعارضة السورية؟ في الحقيقة أننا عندما نتحدث عن وحدة المعارضة فإننا نعني وحدة إتلافية لا و حدة إندماجية. فإننا نريد لفصائل المعارضة أن تبقى مختلفة بمبادئها الفكرية مع أننا نرغب منها جميعاً أن تليّن من تحجرها العقائدي، لأن هذا التمايز الفكري إنما يعكس التنوع الفكري الطبيعي لأطياف الشعب السوري، و أيضاً لأن هذا التمايز هو مصدر غنى و حيوية داخل المجتمع السوري. و لكننا نريد من الفصائل التي وضعتإسقاط النظام سقفاً لها أن تتحد جميعاً تحت مظلة إتلاف واحد، فتتعاضد و تتعاون من أجل هذا الهدف. هذا الهدف الذي اختاره الشعب الثائر أيضاً سقفاً له. و بعد تحقق هذا الهدف نريد للأحزاب السياسية ذات الرؤى السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية المختلفة أن تنفصل وفقاً لتياراتها الفكرية لتتنافس في انتخابات حرة. إذ إننا كسوريين نرغب بأن يكون لنا خيار التصويت على أفكار و رؤى مختلفة نختار منها ما يعبّر عن آمالنا و تطلعاتنا .
قبل أن أتحدث عن أين تقف المعارضة من هذه الوحدة الإتلافية التي ذكرتها أنفاً، دعونني أحدد ماذا نعني باسقاط النظام. فاسقاط النظام يعني دفع الطغمة الحاكمة للتخلي عن الحكم و تقديم رؤوسائها و كل من ثبت أنه تورط مباشرة بدماء السوريين لمحاكمات عادلة، كل هذا مع الحفاظ على مؤسسات الدولة بما فيها الجيش، أما التركيبة الطائفية لهذا الجيش فيجب التعامل معها بطريقة حكيمة من قبل حكومة جديدة بعد انتخابات ديموقراطية. و أما الأجهزة المخابراتية فيجب لجم جماحها و منعها من التدخل في الحياة اليومية للمواطنين، على أن يتم تحويلها فيما بعد إلى هدفها الحقيقي و هو التجسس على الدول و المؤسسات الأجنبية. و أما الموالين للنظام و أتباعه فيجب عدم الإنتقام منهم، إذ نعرف أن أكثرهم يتبع النظام بسبب مصالح وقتية أو خوفاً من النظام أو خوفاً من المجهول، إذ إننا لن نتبع سياسة مشابهة لسياسة "التطهير" التي أتبعت بعد سقوط "حكومة فيشي" في فرنسا أو سياسة "اجتثاث البعث" التي اتبعها الأمريكيون بعد غزو العراق، بل سنتبع سياسة مشابهة لتلك التي اتبعها "مانديلا" بعد سقوط حُكم "الأبارتيد" عندما أسس ما أسماه "هيئة الحقيقة و التراضي"، فكل من لم يثبت أنه تورط مباشرة أو أعطى أمراً صريحاً بقتل السوريين الأبرياء فلن يعاقب، أما من اقترف هذا الجرم فإن كان من مناصري النظام أو معارضيه فستتم محاكمته في محاكم رسمية و وفقاً للقانون.
و لكن القضية الإشكالية التي تختلف عليها الفصائل التي اتخذت إسقاط النظام هدفاً لها ما زالت هي آليات هذا الإسقاط، فبينما ترى بعض الفصائل في العمل العسكري الدولي خيارها الأفضل، فإن بعضها الآخر يرى نقيض ذلك. و الحال أنني شخصياً لا أحبذ هذا الحل لأسباب عدة. من أول هذه الأسباب أن السوريين غيورون جداً على بلدهم، و هم سيرون في أي عمل عسكري مهما كانت طبيعته ليس فقط حرباً على النظام بل أيضاً اعتداءً على وطنهم و ليس أداة لتحريره. و لهذا سيصدقون ادعاءات النظام و سينظرون-بما فيهم الأغلبية الصامطة- إلي النظام على أنه ضحية لقوى أجنبية غاشمة -تماماً أن بلدهم هو ضحيّة- و هكذا سيلتفون حول النظام و سيصبح رمزاً لقضيتهم الوطنية. ثانياً إن أي عمل عسكري قد تكون له نتائج كارثية ليس فقط على البنية التحتية للبلد بل أيضاً على الأرواح، فأي ضربة طائشة قد يكون ثمنها كبيراً نظراً للكثافة السكانية العالية في بعض المناطق. و أيضاً فإن النظام بطبيعته انتقامي، لذلك فإنه من السذاجة بمكان الإعتقاد بأن النظام سيكتفي بالدفاع عن نفسه إذا ما هوجم، إذ إنني أرى أن أول ماسيفعله النظام هو الإنتقام من الشعب الثائر، إننا نرى عينة عن هذه الروح الإنتقامية بإعتقاله لأقارب خصومه السياسيين و تعذيبهم ، و أيضاً بإرساله عناصر حزب العمال الكردستاني للإعتداء على الجنود الأتراك عند أي ضغط إضافي تمارسه عليه تركيا. و أخيراُ و ليس آخراً فإذا ما نظرنا إلى هذا الموضوع من خلال معايير الواقعية السياسية فسنجد أن فكرة العمل العسكري غير ممكنة، فروسيا تعترض على هذا الموضوع قلباً و قالباً و ذلك لأسباب بعضها و معقول و و بعضها الآخر غير واقعي. لهذا فإنني أدعو أصدقائي من المجلس الوطني بالتفكير جدياَ في موقفهم من هذا الموضوع و بالتوقف عن الدعوة إلى أي عمل عسكري جهاراً إذ إن ذلك سيؤدي إلى نفور بعض السوريين من المجلس و الثورة معاً و أيضاً إلى مواقف عكسية نحو الثورة من قبل بعض الدول العالمية و أهم من ذلك إلى المزيد من الخلافات و التشتت بين فصائل المعارضة.
دعونا الآن نقوّم إلى أين وصلت وحدة المعارضة وفق معيار الوحدة الإتلافية الرامية إلى إسقاط النظام و التي حددناه آنفاً في هذا المقال. لاشك أن المعارضة قطعت خطوات كبيرة -بالرغم أنها جاءت متأخرة بعض الشئ- في طريق توحدها على الصعيدين التنظيمي و الفكري. فمن الناحية الفكرية و بعد أن ترددت كثير من الفصائل برفع شعار إسقاط النظام، ها هي بدأت تقتنع و تنادي به، كل هذا بعد أن اكتشفت أن النظام مخادع و معند على أي إصلاح. و لكن الرؤى لكيفية اسقاطه مازالت متباينة أو غير واضحة في بعض الحالات ، لذلك فإن التحدي الآن هو بناء استراتيجية واضحة لإسقاط النظام تتفق عليها فصائل المعارضة كلها إذا أمكن. أما على الصعيد التنظيمي فها نحن أمام فصيلين أساسيين من فصائل المعارضة هما هيئة التنسيق الوطنية و المجلس الوطني السوري بعد أن كنا نتكلم عن بضع عشرات من الفصائل من مدة ليس ببعيدة، كلا الفصيلان قاما على أساس إتلافي من أجل التعامل مع الأزمة السورية الحالية. إن هذا يعد إنجازاً كبيراً في تاريخ المعارضة السورية، هذه المعارضة التي طالما فتتتها الخلافات العقائدية و الشخصية و شلّتها فقدان الواقعية و الروح العملية، و لكن ها هي اليوم تتحلى بشئ من الرشاقة و الحيوية.
و كانت هذه الفعالية جلّية في المجلس الوطني السوري، إذ إنه استطاع أن يضم تحت لوائه فصائل ذات رؤىً فكرية متنوعة بعضها متشدد في يمينيته و بعضها الآخر واضح في يساريته و جزء ثالث يتراوح فيما بينهما، و هذا إن دلّ على شئ فهو يدلّ على أن الفصائل التي انضوت تحته تخلّصت إلى حد معقول من صلابتها العقائدية و اكتسبت واقعية سياسية. و الحال أن أهمية هذه المرونة العقائدية و الليونة السياسية لا تقتصر فقط على مرحلة اسقاط النظام، بل تمتد لما بعده، إذا إن هذه الفصائل إذا ما استمرت على هذه الواقعية و الليونة فإنها ستكون عامل استقرار في الحياة السياسية السورية على المدى المتوسط و البعيد، شئ لم يشهده هذا البلد الحبيب حتى في الفترات التي تمتع بها بدرجة معقولة من الديمقراطية أي في العقد و نيف الذي تلا الإستقلال.
مجالٌ آخر تجلّت فيه فعالية المجلس الوطني هو المجال الدبلوماسي، فقد استطاع في أسابيع قليلة أن يحشد للثورة السورية و لنفسه تأيداً كبيراً على الصعيدين العربي و العالمي. هكذا رحبت به كثير من الفعاليات و الدول في آسية و إفريقيا و أوربة و أمريكا، و استضافته بعضها كتركيا، و اعترف به البعض الآخر كالمجلس الإنتقالي الليبي. و لم يقتصر الأمر على الإعتراف و الترحيب فطرحت الدول الخليجية مستجيبة لجهود منه فكرة تجميد عضوية النظام السوري في الجامعة العربية، و سلّمه المجلس الإنتقالي الليبي السفارة السورية في طرابلس ليقوم بالإشراف عليها بعد أن كان طرد أعوان النظام السوري منها ، و كأن الليبيين يعترفون به كحكومة في المنفى.
و السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو "هل هناك ضرورة لمزيدٍ من التوحد في صفوف المعارضة؟"، و الجواب على هذا السؤال هو "بلا أدنى شك، نعم". تنبع أهمية هذا التوحد من أربعة أسبابٍ رئيسية. أولها هو أنه بالرغم من الترحيب الذي لاقاه المجلس في العواصم العربية و العالمية فإنه سمع نصائح من بعض هذه العواصم تدعوه لتوسيع قاعدته الجماهرية باتحاده مع قوى معارضة لها حضور كبير في الداخل .أما ثانيها فهو قطع الفرصة على النظام و بعض القوى العالمية المؤيدة للنظام من اللعب على الإختلافات بين أطراف المعارضة لإخماد شعلة الثورة. و ثالثها هو إيقاف المماحكات السخيفة التي شاهدناها في الأسابيع الماضية بين بعض الشخصيات المنتمية لأطراف متفرقة من المعارضة، فهذه المماحكات لن تؤدي إلا إلى استنفاذ غير مجدي للطاقات و ربما أيضاً إلى نفور الشباب من الثورة. أما آخرها و أهمها هو أن الثورة السورية من خلال المجلس الوطني حققت أرباحاً مهمة على الصعيد الخارجي، بينما الوضع الداخلي يتجه إلى الصعوبة و التعقيد، فدعوات تسليح الثورة و أيضاً تشجيع النظام على هذا التسليح ساعدا على ظهور جماعات مسلحة أشبه بالعصابات، استغلت الفرصة لتمارس هوايتها في الخطف و التنكيل و القتل، مما شوّه بعض الشئ الصورة الجماهرية للثورة، و حوّل بعض المناطق كمدينة حمص إلى أشبه بساحة قتال و مسرح مصّغر لحرب أهلية .كل هذا يحتم على المعارضة رص صفوف الداخل للحفاظ على جذوة الثورة و نقاوتها و ليبعد عن البلد شبح حربٍ أهلية ممكنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق