عندما حاولت الدول الخليجية تجميد عضوية النظام السوري في الجامعة العربية لاشك أنها كانت صادقة في ذلك. و هي إندفعت إلى ذلك لأنها ملّت من نظام لا يفهم و لا يتفهم، فهذه الدول كانت تحت ضغوط كبيرة أولها من شعوبها التي كانت ترى أخوتها و شركائها في الإيمان تُذبح على يد نظام تراه دخيلاً على هذا الإيمان، وثانيها الضغوط من الدول الغربية التي لم تستطع معاقبة هذا النظام على أفعاله المثيرة للإشمئزاز عبر المحافل الدولية نتيجة النقض الروسي، لذلك أرادت أن تحرج روسيا عبر إدانة عربية لهذا النظام. وهي أرادت أيضاً من خلال هذه الإدانة أن تعطي ضوءً أخضر لتركيا لتقوم بمزيد من الإجراءات لتزيد عزلة النظام السوري.
لم يكن مستغرباً عدم نجاح محاولة التجميد هذه، فمثل هذا القرار أتخذ مرتين فقط منذ نشأت جامعة الدول العربية. المرة الأولى كانت عندما وقعت مصر إتفاقية كامب ديفيد، و فعلت الدول العربية هذا لإرضاء شعوبها التي لم تكن جاهزة لمثل هذه الإتفاقية. أما المرة الثانية فكانت عندما علقت الجامعة عضوية ليبيا قبل بضعة أشهر، إذ كان هناك إجماعاً دولياً للتخلص من نظام القذافي. غير أن مثل هذا الإجماع لم يتوفر بعد في حالة الأسد، مما أعطى بعض الدول العربية الفرصة لرفض هذا التجميد . بالإضافة لهذا فإن هذا التعليق كان يتطلب إجماع الدول العربية، و طبعاً بالإضافة لأمين جامعة الدول العربية نفسه -السيد نبيل العربي- ما زال هناك بعض الدول العربية التي لم تقتنع بعد بأن النظام السوري عليه الرحيل، لا بل إن بعضها سيدعمه على قدر إمكانه كالعراق، و ذلك لأسباب جيوسياسية معروفة.
هكذا و لما لم يكن من الممكن تجميد عضوية سوريا في الجامعة، لجأ وزراء خارجية دول الخليج و بالتحديد وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني -إذ إنه كان قائد الجوقة الساعية لمعاقبة الأسد- إلى الخطة رقم 2 . و تضمنت هذه الخطة شروطاً من الصعب أن يقبلها النظام السوري كأن يتضمن وفد المعارضة معارضين من الداخل و الخارج و أن تجري المفاوضات بين النظام و المعارضة في مقر الجامعة العربية و برعايتها، و أيضاً وضع مهلة ١٥ يوم للتنفيذ، و أخيراً سمى قطر كمراقب على تنفيذ الدعوة.
لم تكن توقعات وزير خارجية قطر بالخاطئة، فقد سارع السفير السوري لدى الجامعة العربية يوسف أحمد إلى إعلان رفض سورية للبيان جملة وتفصيلا و أن يعتبره عملاً عدائيا وغير بناء في التعامل مع الأزمة السورية. ثم تجاهل النظام السوري المبادرة العربية كلية و استمر بممارسة أعمال العنف و القتل و قصف المدن، أو بالأحرى تعمد تصعيدها أملاً منه بالقضاء على الثورة خلال مهلة الخمسة عشر يوماً التي أعطيت له، كل هذا ليدل على أن النظام لا يؤمن إلا بالحل الأمني حتى النهاية. و لكن هيهات فتصميم الشعب على أخذه حريته بيديه هي أقوى من جبروت الآلة العسكرية للنظام.
استمر تجاهل النظام السوري للمبادرة العربية حتى بعد زيارة اللجنة الوزارية المكلفة بمتابعة الوضع في سوريا لدمشق في 26 تشرين الأول و برغم طلبها جواباً رسمياً من سوريا على المبادرة العربية، إذ إنه خُدع بالودية التي أبداها أعضاء اللجنة خلال هذه الزيارة بمن فيهم رئيسها الشيخ حمد بن جاسم. هكذا لما أتى الوفد السوري إلى لقاء اللجنة الوزارية في الدوحة في 30 تشرين الأول لم يأت بجواب رسمي، بل أتى بمجموعة من التحذيرات و من ضمنها تهديد الأسد بحصول زلزال كبير في المنطقة إذا سمحت الجامعة العربية بتدخل الغرب في سوريا.
غير أنه عندما ردّ الشيخ حمد بن جاسم على تهديد الأسد بقوله أن المنطقة الآن "كلها معرضة إلى عاصفة كبيرة ومن المهم أن يعرف القادة العرب كيفية التعامل معها ليس بالاحتيال أو باللف أو الدوران وإنما بالإصلاح الجاد الذي يخدم الشعوب." و أيضاً عند أكد أن مجلس الجامعة العربية في اجتماعه الأربعاء (2 تشرين الثاني) "سيكون سيد قراره في هذه الموضوع،" وأن اللقاء سيحصل "سواء تم الاتفاق على الورقة أو لم يتم." أدرك النظام السوري عمق الهوة التي هو فيها.
هكذا عمل النظام السوري على تدارك نفسه، فجهزخلال 24 ساعة مجموعة من التعديلات التي تتيح له التعامل مع المبادرة بتغيير مصطلحات مثل استبدال سحب الجيش بإنهاء كل المظاهر المسلحة في المناطق الآهلة بالسكان، واستبدال وقف عمليات قتل المتظاهرين بوقف العنف من كل الاطراف والافراج عن معتقلين من الازمة الراهنة بدلا من كل المعتقلين و ترك مكان الحوار غير محدد. و تم إقرار هذه التعديلات بعد أن أصّر الوفد السوري على مقابلة أمير قطرالشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الذي لم يدرك تماماً الفخ الذي كان حضره وزير خارجيته للنظام السوري، فأُفرغت المبادرة العربية من محتواها، و تابع النظام السوري سياسية القتل و قصف المدن. هكذا اعتبر وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه أن مبادرة الجامعة العربية للحل في سوريا قد «ماتت»، مؤكدا أن الدول العربية تتحمل مسؤولية «كبرى» تجاه الوضع في سوريا.
أما كيف تعامل المجلس الوطني السوري مع المبادرة فهذا حديث يطول، و لكن بإختصار سنحت للمجلس العديد من الفرص ليصوّب سهاماً في قلب النظام و ويعمق الشرخ بين النظام والدول العربية فلم يستغلها. و أيضاً ظهر المجلس و كأنه لا يتفهم الواقع و محدوديات الدول و الجامعة العربيتين فيما يمكنهما تقديمه له و للثورة السورية، مما جعل بعض الأطراف العربية المؤيدة له تتململ منه، و دعا أمين عام الجامعة العربية للإجتماع بفصائل أخرى من المعارضة السورية، و كأنه يوجه رسالة غير مباشرة للمجلس ليكون أكثر حذراً و أكثر دبلوماسية. و جاء إعتداء أنصارالمجلس الوطني على أعضاء من هيئة التنسيق الوطنية أثناء دخولهم لمقابلة أمين الجامعة العربية، لتشوه سمعته و سمعة الثورة السورية بعض الشئ.
كل هذا يجعلنا ننتظر ببعض القلق و التوجس البيان الذي سيصدر عن الإجتماع الطارئ لجامعة الدول العربية الذي سيجري السبت القادم، و نتساءل "ماذا بعد؟"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق