الأوضاع في الداخل السوري تميل نحو المزيد من التدهور، فهناك البلبلة المتصاعدة بإضطراد بسبب الإتهامات و الإتهامات المضادة و الفبركات و الفبركات المضادة، و هناك الحالة الأمنية المتدهورة بإستمرار بسبب الإزدياد اليومي في عدد الضحايا و الفوضى المسلحة و الصراع الطائفي في حمص. في ظل كل هذا باءت جهود الجامعة العربية بالفشل و وصلت العلاقة بينها و بين النظام إلى حد القطيعة. و فوق كل ذلك تبدو الجهود الدولية مشلولةً بسبب إختلافات الرؤية لكيفية التعامل مع الملف السوري. هكذا تبدو صورة الوضع قاتمة داكنة و تبدو الجهود الدبلوماسية راكنة ساكنة، و لهذا يتساءل السوريون أين هو المخرج من هذا المأزق؟ و لكني أرى بصيص أملٍ في واحدة من الفقرات التي تضمنها مشروع القرار الذي قدمه الأوربيون لمجلس الأمن في الخامس من شهر تشرين الأول و لم يمر بسبب النقض الروسي. و في هذه الفقرة طالب مشروع القرار المجهض الأمين العام بتعيين مبعوثه الخاص بالقضية السورية. فكيف يمكن لهذا المبعوث أن يدفع القضية بالسورية إلى الأمام؟
هناك مرجعيات و هيئات و أطراف كثيرة تعمل على الملف السوري فمن ينسق بينها لتأتي بنتائجها الفضلى و لتصل إلى غايتها الأساسية و التي هي فك كربة الشعب السوري بأقصى سرعة. إذ لا يمكننا إنتظار قرارات جزئية تأتي من هذه الهيئة أو تلك، فها قد أدانت الأمم المتحدة النظام و فرضت الجامعة العربية عليه العقوبات، كل هذا حسنٌ و لكن هل سيوقف حمامَ الدم قريباً؟ و لا يمكننا أن ننتظر مبادرات فردية تأتي من هذه الدولة أو تلك و من ثمّ لنرى ردود الفعل عليها أو لنكتشف أنها ناقصةً لم تأخذ كل أبعاد القضية بعين الإعتبار، فها قد أتت مبادرة فرنسية، و لكن لم نسمع من الدول الأخرى أي شئ حولها، فهل يا ترى هم يدرسونها؟ و لا يمكننا أن ننتظر تصريحات تأتي من هذه الجهة و تصريحات مضادة تأتي من تلك، فبعد أن تحدث وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه عن فكرة الممرات الآمنة، جاءت منسقة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة -فاليري آموس- لتقول أنها لا ترى مبرراً لذلك، فهل لهم أن يرحموننا و يتفقون على رأي؟ لهذا عينه نحن بحاجة لشخصٍ ينسق بين كل هذه الجهات و الأطراف ليدفع بالقضية السورية إلى طريق الحل بلا تمهل بدلاً من هذه الفوضى و الضياع.
بالإضافة لهذا هناك الكثير من الأمور الإنسانية و العملية التي تحتاج إلى الخبرات التقنية و الإمدادات اللوجستية و العمل الدؤوب عليها. فهناك اللاجئين السوريين في الدول المجاورة -الأردن و لبنان و تركيا- و الذين يقترب عددهم من الثلاثين ألفاً، أقل من ربعهم يعيش في مخيمات أما الباقي فعيش على رحمة الناس، حتى هؤلاء الذين في مخيمات فإن أغلبهم يعيشون بظروف صعبة جداً. حالة كثيرين داخل البلد ليس بأحسن، فهناك أكثر من مليون و نصف المليون نسمة يحتاجون إلى الطعام حسب تصريح فاليري آموس، و طبعاً هذا العدد مرشح للتصاعد. فمن سيعمل على تأمين المأوى للاجئين و الطعام للجياع، من سيطالب المؤسسات و الدول العالمية لتوفير حاجيات هؤلاء و أولائك؟ لهذا أيضاً نريد من الأمم المتحدة أن تعيين مندوباً لها خاصاً بالقضية السورية ليبني حوله فريقاً من الإختصاصيين ليتابعوا كل هذه الأمور.
أما على الصعيد الدولي فإنه مما لاشك فيه أن لا حل جيد للقضية السورية بلا إجماع دولي -بالتحديد توافق بين روسيا و الدول الغربية- على الحل، فبدون هذا الإجماع ستطول حالة الإستتنزاف التي نعيش فيها الآن و و ربما تدهورت إلى حربٍ أهلية، أو ستنتهي بسناريو مشابه للسيناريو الليبي-مع أنه مستبعد جداً- و كلا الإحتمالين سيكون كارثياً. و الحال أنه يعوق هذا الإجماع حالياً إختلافات في الرؤى بين الأطراف المعنية و ريبة كل طرف من نوايا الطرف الآخر و أيضاً قضايا عملية يلزمها تسوية لإمكانية البدء بأي حلٍ دولي للأزمة. إذاً ما هو الحل؟
عادة ما تُبنى التوافقات الدولية على أساس المفاوضات عبر تقديم التنازلات المتبادلة. ويمكن أن تكون هذه المفاوضات مباشرة و ذلك عبر حوارات جماعية أو متعددة الأطراف أو ثنائية تتم وجهاً لوجه أو عبر وسائل الإتصال التقنية. هذا تماماً ما حدث أثناء مناقشة مشروع مجلس الأمن الذي قدمته الدول الأوروبية و قوبل بنقضٍ صيني و روسي مزدوج. و الحقيقة أن فشل مشروع القرار الأوروبي كان ناجماً عن تباعد الأفكار بين الطرفين و عدم محاولة أي منهما فهم طريقة تفكيرالطرف الآخر و أيضاً بسبب شكوك كل طرف بنوايا الطرف الآخر. لهذا فإنني أرى أن العودة إلى مفاوضات مباشرة بين هذه الأطراف في الوقت الحاضر مازال محفوفاً بخطر الفشل، و بالتالي من الأفضل أن يبدأ ثانية الحوار بين روسيا و الغرب على شكل مفاوضاتٍ غير مباشرة.
هناك طرق عدة لإجراء محادثات غير مباشرة منها طريقة "القنوات الخلفية" و "دبلوماسية الطريق الثاني" و طريقة "المحادثات عن قرب" و أيضاً "الدبلوماسية المكوكية". بينما تتشابه كل هذه الطرق في أهدافها العامة من حيث تقريب وجهة نظر الأطراف المعنية و إزالة الشكوك فيما بينها، فإنها تختلف بآلية حدوثها، هكذا فإن إختيار أي طريقة من هذه الطرق يعتمد على الآلية الفضلى التي تتلائم مع القضية المراد حلها.
و الحال إنني أعتقد أن الطريقة الأفضل للقضية السورية هي طريقة الدبلوماسية المكوكية. إذ تعتمد هذه الطريقة على وجود شخصٍ وسيط يتنقل جيئة و ذهاباً بلا تلكؤ أو تمهل بين الأطراف المعنية ليساعد على حل الخلافات المستعصية أو التي ترواح مكانها فيستمع للأطراف جميعاً بحيادية و ينقل وجهة نظر كل طرف إلى الطرف الآخر و يحاول بناء الثقة فيما بينها و أخيراً يطرح مقترحات لحل المسائل العالقة عن طريق إيجاد نقاط التقاطع أولاً و من ثم حل النقاط الخلافية رويداً رويداً. ، و هو يفعل كل هذا بعيداً عن وسائط الإعلام و التصريحات العلنية. فالبرغم من أن الموقف الروسي يتغير و يلين و لكن تغيره بطئ، و يلزمه من يدفعه إلى الأمام -إذ يموت على الأقل كل يوم 60 مواطن سوري- فالروس أصبحوا مقتنعين أن نظام الأسد غير قابل للحياة، و لكنهم يؤخرون نهايته حتى يحصلون على تعهدات بأنه سوف يتم مراعاة مصالحهم و خصوصاً العسكرية من قبل الدول الغربية، لهذا هي عملياً تريد أن تشارك بأي وجود ذي طابعٍ عسكري في سوريا، و هي بعثت برسائل إلى الغرب - على حد قول الأدميرال فيكتور كرافتشينكو- مفادها "إن وجود قوى أخرى غير الناتو سيكون مفيداً للمنطقة لأنه يمنع إندلاع أي نزاع مسلح"، و لكننا لا نعرف ما هو رد الدول الغربية عليه، إذ منذ أن حصل التدخل الغربي في كوسفو في عام 1999 و الناتو إنفرادي النزعة في عملياته. فهل سيتركوننا ننتظر كثيراً و نحن نعدّ قتلانا؟!
أخيرا أود أن ألفت الإنتباه إلى أن مشروع قرار مجلس الأمن الأخير الذي إقترحته الدول الأوروبية و إعترضت عليه روسيا او الصين في شهر تشرين أول الماضي تضمن بنداً يطلب من الأمين العام أن يعيّن في الوقت المناسب ممثلاً خاصاً بالقضية السورية بالتنسيق مع مجلس الأمن. و الحال أن هذا كان تعديلاً أدخلته روسيا على المشروع الأوروبي. لذلك فإنني أظن أن البدء به سيطمئن الروس و سيجعلهم يشعرون أنهم يشاركون بإيجاد الحلول و بالتالي مرتاحين للتعامل مع أي حل يأتي من خلال هذا المبعوث.
لهذا كله نريد مندوباً تعيينه الأمم المتحدة يعمل على مختلف القضايا الإنسانية و السياسية المتعلقة بالقضية السورية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق