يشكل الهاجس الأمني واحدة من أهم التحديات التي تواجه أي
حكومة إنتقالية بعد ثورة شعبية، إذ إن الثورات غالباً ما تترافق بالفوضى و العنف،
وهذه الصفات تلازم عموماً كل الثورات، فالثورات هي مواجهة و تحدٍ بين الشعب الذي
يريد تغيير نظام الحكم و الحكومة التي تقاوم هذا التغيير.
و السبب الكامن وراء الثورات هو تراكم الإحساس
بالحرمان و الجور و الظلم الذي يؤدي إلى العسر و الكدر و الألم و المرارة و الحنق.
و لكن في لحظة معينة و نتيجة تعدٍ فاضح من السلطة على الشعب ينفجر الحنق مولداً
غضباً و تمرداً. و التمرد عادة ما يكون محدود المطالب و
الإتساع، ولكن عندما ترفض السلطة الإعتراف بمشروعية هذه المطالب يرتفع سقف المطالب
ليصبح إسقاط النظام ، و تتسع رقعة التمرد لتشمل أجزاء واسعة
من البلاد، في تلك اللحظة يتحول التمرد إلى ثورة.
إذاً فالثورات
بطبيعتها فيها غضب و مواجهة و تحدٍ-أي عنف نفسي- من قبل الشعب، و غالباً ما ترد
عليه السلطة بعنف المادي أي بالضرب و الإعتقال
و التفتيش التعسفي و التنكيل و القتل، و الرد الطبيعي من قبل الشعب على هذا العنف
المادي سيكون عنفاً مادياً أيضاً. و الحال أن مقدار عنف الشعب يكون متناسباً مع
مقدار عنف السلطة، مع أنه في كل الأحوال يبقى أقل من عنف
السلطة،لأن الشعب لايمتلك إمكانيات السلطة و لا دوافعها من إنتقام و رغبة في
الإمحاء.
لهذا تتسم الثورات الشعبية إجمالاً بالفوضى و العنف و لكن
تختلف عن بعضها البعض في درجة هذه الفوضى و العنف. و الحق، إن درجة العنف هذه
تتعلق بعدة عوامل و لكن أهمها على الإطلاق هو عنف السلطة. هكذا فالثورة المخملية
في تشيكوسلوفاكيا عام 1989 و التي دامت ستة أسابيع و مارست فيها السلطة عنفاً
محدوداً (إستخدام هروات فقط) أدت إلى وفاة متظاهر و احد فقط، بينما الإنتفاضة
المصرية التي دامت ثلاثة أسابيع وتميزت بوحشية رجال الشرطة -حيث إستخدموا في بعض الأحيان الرصاص الحي- فإنها إنتهت بمقتل 846 شخصاً من المدنيين و
أيضاً 26 شخصاً من الشرطة. أما الثورة الأمريكية و التي إبتدأت كثورة سلمية و لكن
حكومة صاحب الجلالة إستخدمت الجيش لقمعها إنتهت على شكل حرب دامت
ثماني سنوات مات خلالها 25000 إنسان. لهذا يتساءل بعض الباحثين إذا كان هناك حقاً ثورة لاعنفية بالمعنى المطلق، و الإجابة لا، و إنما درجة العنف
المستخدم هي التي تحدد فيما إذا كان يصح أن نطلق عليها عنفية أو لا عنفية
.
لم تكن الثورة السورية مختلفة في مسيرتها عن باقي الثورات،
عندما كتب أطفال درعا "إجاك الدور يا دكتور" كانوا يعبرون عن حنق أهلهم
بشكلٍ خاص و الشعب السوري بشكلٍ عام، و عندما برعونتها إعتقلت قوى الأمن هؤلاء الأطفال
حولت هذا الحنق إلى غضب و تمرد للمطالبة بالإصلاح و الحرية و الكرامة. و لكن لما أنكر بشار مشروعية مطالب الشعب و رد
عليها بالوعيد و التهديد، إرتفعت مطالب الشعب إلى إسقاط النظام، عندئذ إتسعت رقعة
الإحتجاج و تحولت الإنتفاضة إلى ثورة. كل هذا لم يكن إلا وصفاً تقليدياً لآلية نشؤ
الثورات، و لكن ما عقد الثورة السورية من الناحية
الأمنية كان إقحام الجيش و إستخدام الشبيحة في محاولة قمع الثورة و أيضاً التجييش الطائفي و تسليح المدنيين. كل هذا سيجعل
موضوع إحلال الأمن واحداً من أكبر التحديات التي ستواجه الحكومة الإنتقالية.
كان إقحام الجيش في قمع المتظاهرين و قتلهم و التفتيش
التعسفي و حصار المدن و دكها واحداَ من أكبر الحماقات التي إرتكبها النظام السوري.
فهذا أفقد الجيش صبغته الوطنية ليس فقط في عيون المواطنين المدنيين، بل أيضاً في
عيون الكثيرين من أعضاء هذا الجيش نفسه. هكذا إبتدأ التململ
باكراً في بعض قطعات الجيش، فحصلت مماحكات بين عناصر و قيادات الفرقة الرابعة و
الفرقة الخامسة أثناء حصار درعا، ثم تحولت هذه المماحكات إلى إنشقاقات أولاً فردية
و و من ثُمّ جماعية. و لما كثر عدد المنشقين و بدؤوا يستقرون في المناطق السكنية و
لا حقهم الجيش ليقضي عليهم ، بدأ المنشقون بالتصدي للجيش النظامي و الشبيحة لحماية
أنفسهم و حماية المدنيين من حولهم، رأينا هذا بجلاء في الرستن و حمص.
الخطأ الثاني الذي إرتكبه النظام كان إستخدام الشبيحة. و
الشبيحة هم عصابات مسلحة أسسها مالك الأسد أثناء الوجود العسكري السوري في لبنان و
ذلك للقيام بعمليات التهريب. ثم تطور إتساعها و أصبح هناك الكثير منها في العديد
من مناطق الساحل السوري، و يديرها أشخاص من آل الأسد و آل
مخلوف و آل نجيب، و لكن القسم الأكبر منها هو تحت أمرة نمير الأسد إبن عم بشار
الأسد. و هي مجموعات تقوم بعمليات النصب و الإحتيال و السرقة و جمع الأتاوات و
الضرب و التنكيل، و تستخدم أسلحة مختلفة من عصي و سكاكين و أسلحة نارية فردية.
وللشبيحة سجون خاصة يسجنون فيها من يخطفونه إلى حين قبوله بما يفرض عليه. وهم فوق القانون ، يفعلون ما يشاؤون بدون رادع يردعهم،فطلباتهم
لا ترد، ويتحدون سلطة والشرطة وحتى المخابرات، و لهم إنتماء طائفي واحد يفتخرون به
و بلغ عددهم 5000 إلى 01000 شخص قبل بدأ الثورة
السورية.
يتم اختيار الشبيحة بعناية فائقة من أشخاص لهم صفات
مميزة، فهم
محدودي الثقافة، و لهم بنية قوية و جسم ضخم، يتم
تدريبهم تدريبا قتاليا عاليا، ويكون ولاؤهم المطلق لزعيمهم. تم إستخدام
الشبيحة لقمع المتظاهرين لأول مرة في اللاذقية، ثم إبتدأ النظام بتجنيد العديد
منهم من السكان المحليين في محافظات دمشق و ريف دمشق و حلب، و لكن بالتحديد في حمص
حيث لجأ إلى أفرادٍ من طائفة محددة يقطنون تلك المدينة، و بدأ هؤلاء الشبيحة بضرب
كل من يعتقدون أنه مؤيد للثورة و بخطفهم و تعذيبهم و أيضاً بتخريب الممتلكات و
تهديد الأهالي و ترويعهم. خلال الأزمة الحالية، إزدادت سطوة الشبيحة إلى حد أن
الأجهزة الأمنية في سوريا بدأت تتساءل -بحسب بعض التقارير الصحفية- "هل
تحكمنا الشبيحة؟!".
بالإضافة لهذا عمد النظام إلى التجييش الطائفي.
و الحال، منذ إعتلائه السلطة عمد حافظ الأسد إلى إستخدام طائفة
معينة لتقوية حكمه و ليحتمي بها عند الضرورة و ذلك عبر إعطائها بعض الميزات. هكذا
بشكل من الأشكال ربط مصيرها بمصيره، أو بالأحرى أفهمها هذا و زرعه فيها، بالرغم من
ذلك لم نسمع عن حوادث طائفية في سوريا. و لكن منذ بداية
الثورة إرتفع التجييش الطائفي إلى أعلاه، فصبغ النظام
السوري الثورة السورية بصبغة طائفية ليؤلب عليها الرأي العام السوري فيسهل عليه
قمعها. هكذا أذاعت الإخبارية السورية في 26 آذار بأن هناك "أنباء تفيد عن رفع
المطالب الشعبية لتصل إلى إثارة النعرات الطائفية"، و قالت مستشارة الرئيس
السوري بثينة شعبان أن "ما يحدث في سوريا هو محاولة إشعال فتنة طائفية"،
ثم تابعت القول أن السلطات السورية ألقت القبض على سبعة عناصر تخريبية من جنسيات
مختلفة و لكن حتى الآن لم نرى هذه العناصر. ثم تابع أزلام النظام الواحد بعد الآخر
التكلم عن الفتنة الطائفية. كل هذا أدخل الريبة و الشك و الخوف في قلوب مواطنين
يقطنون أحياء متجاورة. بالإضافة لهذا منذ بدء الثورة، فبدأت سياسة ممنهجة من الإضطهاد
و التجويع الطائفي لناس في أحياء معينة، و في الأسابيع الأخيرة بدأت عملية تطهير
طائفي من حمص، لإفراغها من معظم سكانها.
وفوق ذلك كان قد عمد النظام إلى تسليح المدنيين من
طائفة معينة منذ أمد بعيد، و لكن منذ بدأ الثورة أخذ ذلك منحاً أكثر سرعة و أكثر خطورة، فإذ به كأنه يضع النار في الهشيم. ففي
بعض أحياء حمص كالنزهة و الزهراء تم تسليح كل من هو فوق السادسة عشرة في وضح
النهار و على مرأى و مسمع بقية سكان المدينة بعلم من قيادة النظام على أعلى
المستويات. ليس هناك أي شئ يمنعنا من الإعتقاد أن تسليحاً مشابهاً حصل في بعض
مناطق الساحل كبانياس و جبلة.
بالرغم من القسوة المفرطة التي تعامل بها النظام مع الثورة السورية،
فإن الثورة السورية بقيت سلمية حتى شهر أيلول تقريباً. خلال الأشهر الستة للثورة
حدثت بعض حوادث الإنتقام من بعض الأطراف الموالية للثورة -كقتل العقيد التلاوي أو
حادثة جسر الشغور- و لكنها بقيت فردية. و لجأ بعض المدنيين للتسلح، و لكن كان هذا
التسلح فردياً بدوافع ذاتية لحماية أنفسهم من إعتداءات و إنتهاكات الشبيحة. و
الحال، إن الغالبية العظمى من الذين قتلوا من أفراد الجيش و الشرطة في هذه الأثناء
قتلوا على أيادي أفراد الجيش و الأمن لرفضهم إطلاق النار على المدنيين. هكذا بقيت
الثورة السورية سلمية بإمتياز حتى نهاية شهر أيلول تقريبا،ً و بالتحديد إلى
حين تشكل كتيبة خالد بن الوليد.
و تشكلت هذه الكتيبة في الرستن من منشقين عن الجيش إنضم إليهم العديد من المدنيين
من أبناء المدينة. من المهم الذكر هؤلاء المنشقين هم من أبناء مدينة الرستن عينها
و أغلبهم عاين حوادث درعا و بناء عليه قرروا الإنشقاق، و أخذت الكتيبة على عاتقها
حماية المدينة من إعتداءات الشبيحة و أجهزة الأمن. و مع حلول هذا
الوقت أخذ عدد المنشقين يتزايد و أخذت دعوات التسليح لمواجهة الآلة القمعية للنظام تظهر من قبل بعض أطراف المعارضة -كمحمد رحال و لؤي الزعبي- ثم بدأت
تنتشر دعوات التسليح على صفحات الفيسبوك، حتى صفحات التنسيقيات الإفتراضية
-كتنسيقية القصاع و باب توما- لم تخلو من هذه الدعوات.
هكذا تكاثر عدد الشبان الراغبين بحمل السلاح،
و لما كان أغلب هؤلاء ليس لهم خبرات عسكرية ذات دلالة و لا يمتلكون الأسلحة إلتفوا
حول المنشقين و هكذا بدأت تتشكل وحدات ما يسمى بالجيش السوري الحر. طبعاً هذا
التطور كان طبيعياً و مفهوماً من الناحية
العلمية التاريخية، و ذلك للأسباب التالية:
·
عنف النظام
المفرط.
·
إستخدام
النظام لعصابات الشبيحة.
·
تسليح
النظام للمدنيين الموالين له.
·
غياب
المناطق الآمنة التي يمكن أن يلجأ لها المنشقون.
·
غياب
القيادة السياسية الموجهة للثورة.
·
غياب الحل
السياسي للأزمة السورية، بما فيها عجز المجتمع الدولي عن تبني سياسة واضحة تجاه القضية
السورية.
الآن دعونا نستعرض مكونات الجيش السوري الحر. فبالإضافة لما يسمى
بقيادة الجيش الحر الموجودة في تركيا، هناك تقريباً 33 وحدة من وحدات الجيش الحرعلى
الأرض السورية، و هي موزعة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب و بشكل رئيسي في
الجزء المتوسط الغربي من القطر. ثلاث منها فقط لها
إتصال بقيادة الجيش السوري الحر في تركيا، و هذا الإتصال إلكتروني عبر الإنترنت. و
الحال، إن هذه الوحدات الثلاث هي من الوحدات الأكثر فعالية من بين الوحدات الثلاث
و هي: لواء خالد بن الوليد في حمص و كتيبة العمري في درعا و كتيبة هرموش في جبل
الزاوية. من المهم أن نلاحظ أن أغلب قطعات الجيش الحر داخل القطر هي من المدنيين
الذين إختاروا حمل السلاح، و تبلغ نسبتهم تقريباً 80%-90% من مكونات هذه القطعات.
أيضاً من المهم الإنتباه أن هؤلاء المدنيين هم
من الأبناء المحليين للمناطق المتوجدين فيها ، و هم من طبقات مختلفة في
المجتمع، فبعضهم أطباء و مهندسين و بعضهم طلاب جامعات و آخرون من مهن مختلفة أخرى،
لذلك هم ليسوا بعصابات، لا بل هم مقتنعون كلياً بالسبب الذي من أجله حملوا السلاح
و هو حماية أهلهم من الأمن و الشبيحة من التفتيش و الإعتقال التعسفيين، و أيضاً
حماية المظاهرات السلمية. هذا لا يعني أن بعضهم لا يتصرف بتصرفات غير مسؤولة أو
طائشة و خصوصاً في أماكن التوترات الطائفية كحمص. نقطة أخيرة يجب أن أوكد عليها
أنه ليس بين هؤلاء مقاتلين أجانب (أي غير سوريين)، و أن تدين أغلب هؤلاء هو تدين
شعبي إجتماعي بسيط ليس نابعاً من موقف سياسي ديني أو تعصب طائفي.
كل هذه العوامل إضافة للفوضى التي ستتبع سقوط النظام ستجعل مهمة حفظ
الأمن واحدة من أصعب المهام التي ستواجهها الحكومة السورية الإنتقالية، و ذلك للأسباب التالية:
·
أصبح عندنا
جيشين النظامي و الحر و هما في حالة عداء، و المصالحة بينهما ستكون صعبة جداً.
·
الجيش
النظامي يتضعضع، و في حال سقوط النظام عبر وسائل غير سياسية،هذا الجيش سينفك عقده،
و بعض عناصره خصوصاً تلك التي في الفرقة الرابعة و الحرس الجمهوري ستفر وتشكل
عصابات عسكرية.
·
الشبيحة
سيتحولون إلى عصابات تعكر صفو الأمن و تقض مضجع المواطنين في كثير من أنحاء
البلاد.
·
بعض عناصر
الجيش الحر لن تتخلى عن مواقعها أو تسلم سلاحها بسهولة.
·
التوترات
الطائفية في حمص ستكون واحدة من أهم التحديات الأمنية بعد سقوط النظام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق