منذ أن إبتدأت الثورة السورية في
18 آذار/مارس 2011، أظهر الشعب السوري شجاعة و تصميماً لا يقارنين في وجه
آلة القمع و التنكيل و القتل. هذا ليس مجرد كلام خطابي، بل كلام واقعي
يؤيده العديد من المراقبين المستقلين. و لقد حدد الشعب الثائر بفطرية واعية
و ذكية شعار "حرية و عدالة و كرامة" كعنوان لثورته، و لكن لكي يستطيع
الشعب قيادة ثورته إلى غايتها بأقل مقدار ممكن من التضحيات يلزمه قيادة
سياسية تصيغ أمنياته و تطلعاته و تقود معركته السياسية.
لم تكن هذه الضرورة خافية عن بعض أوساط المعارضة. هكذا و إبتداءً من 25 آذار/مارس بادرت بعض الشخصيات إلى تشكيل تنظيم إئتلافي يجمع مختلف أحزاب المعارضة، أثمرت هذه الجهود التي إستمرت ثلاثة أشهر عن تشكيل هيئة التنسيق الوطنية في 30 حزيران/يونيو. ضمت هيئة التنسيق عدداً واسعاً -إلى حد ما- من فصائل و شخصيات المعارضة -و لكن أغلبها ذو ميول يسارية- إلا أنها لم تضم كل أطياف المعارضة، إذ غاب عنها تياران مهمان هما إعلان دمشق و حركة الإخوان المسلمين، و أيضاً غاب عنها تمثيل جزء كبير من الشارع السوري ليس يساري الهوى. إشتهرت هيئة التنسيق بلاءاتها الثلاث "لا للطائفية، لا للعنف، لا للتدخل الأجنبي". لم تدرك الهيئة أنها لا يمكنها أن تقيم برناماجاً لثورة قائماً فقط على كلمة "لا". فالثورة عمل إيجابي فاعل، لا بل هو أشدها فاعلية، و فقط بعد رفع شعار الفعل الإيجابي و التغيير، يمكن وضع ضوابط له. هكذا فبينما إتفقت الهيئة بشعارها "لا للطائفية" مع الغالبية العظمى من الشعب السوري، فإنها بشعارها "لا للتدخل الأجنبي" و قفت على نقيض جزء كبير من الشعب الثائر الذي رفع لافتات تؤيد الحظر الجوي و المناطق الآمنة. كما أن تصلبها و مطلقية طرحها لشعار "لا للعنف" جعلها تقف موقفاً عدائياً من الجيش الحر أو هؤلاء الذين رفعوا السلاح للدفاع عن أنفسهم، مما أوسع الهوة بينها و بين الشباب الثائر. و لكن أكثر ما أضر بها في هذا المجال هو تأخرها بطرح شعار إسقاط النظام، فبينما رفع الشعب هذا الشعار إبتدأَ من شهر أيار، لم تلفظه هيئة التنسيق حتى شهر أيلول. هكذا ظهرت هيئة التنسيق ليس فقط غير قادرة على القيام بمهمة الموجه السياسي للحراك الشعبي، بل أيضاً غير قادرة عن فهم إمنيات و طموحات الشعب. كل هذا -بالإضافة للتصلب التنظمي و فردية قياداتها- أدى إلى إنسحاب عدد كبير من مؤسسيها الأوائل منها كميشيل كيلو و عارف دليلة و حبيب عيسى و حازم نهار و برهان غليون.
و بينما كانت تجري المساعي لتشكيل هيئة التنسيق، تم عقد أول مؤتمرين للمعارضة في الخارج، أعني بهما مؤتمري أنطاليا (31 أيار/مايو2- حزيران/يونيو) و بروكسل (5-4 حزيران/يونيو). كلاهما عقدا بحسب زعم منظميهما من أجل تعبئة شعبية للحراك الثوري. هكذا لم ينجم عن كليهما أي صياغة لإطار سياسي للثورة، مع أنني كنت قد بعثت بإقتراح لتشكيل مجلس إنتقالي مكون من خمسة أشخاص إلى مؤتمر إنطاليا.
ثم جاء مؤتمر الإنقاذ الوطني الذي عقد في 16-17 تموز/يوليو، و كان من المقررأن يعقد في دمشق و إسطنبول في آن معاً، و لكن النظام منع الجزء الدمشقي منه بإرتكابه مجزرة في المكان المقرر لحدوثه راح ضحيتها 24 شخصاً. هكذا عقد منه فقط الجزء الإسطنبولي، فغلب عليه الطابع الإسلاماني. وضع منظمو هذا المؤتمر له هدفين: الأول بناء صورة لسورية مابعد الأسد و الثاني تشكيل حكومة ظل. و قد وضع المنظمون هذين الهدفين بناء على إعتقادهم أن سقوط النظام الأسدي كان آنياً، هكذا كان علينا أن نعبّأ المجتمع حول مشروع سوريا الجديدة و نسدّ الفراغ المؤسساتي الناجم عن سقوطه بحكومة ظليلة. ولكن المؤتمر فشل فشلاً ذريعاً، إذ إن فكرة تشكيل حكومة ظّل كانت بعيدة كل البعد حتى عن متطلبات الثورة في ذلك الحين، فالنظام الأسدي لم يكن آني السقوط و المعارضة لم تكن مهيئة لتشكيل أي كيان سياسي يدير عملها وذلك بسبب تشرذمها. هكذا إختتم هذا المؤتمر أعماله بتشكيل لجنة تدعو إلى مؤتمر جديد يضم كل أطياف المعارضة.
و لكن بدل أن تعمل هذه اللجنة على تنظيم مؤتمر جديد يضم كل أطياف المعارضة السياسية، عمل بعض أعضائها على تنظيم مؤتمر جديد في إسطنبول في 20 آب/أغسطس يضم مغتربين معارضين غالبيتهم العظمى قاطنة في الشمال الأمريكي و لم يكن لهم أي باع في العمل السياسي، و ضم إليه مندوبين عن مؤتمري إنطاليا و بروكسل و الكتلة الإسلامانية التي ساهمت بتنظيم مؤتمر الإنقاذ، و كان الهدف من هذا المؤتمر تشكيل مجلس تحت إسم "المجلس الوطني السوري". و لكن إعترض على هذا الموضوع مندوبي مؤتمر إنطاليا و بروكسل و إنسحبوا من هذا المؤتمر، و لما كانوا على علم أن المغتربين الأمريكيين مصممون على تشكيل مجلسهم، شكل هؤلاء مجلساً على عجل في 29 آب/أغسطس مكوناً من أكثر من 150 شخصية دون إستشارة أي من الأعضاء المختارين و و ضعوا على رأسه الدكتور برهان غليون أيضاً دون إستشارته.
قبل الدكتور برهان بالمهمة الموكلة إليه، و كنت واحداً من الذين شجعوه على هذا، لأنني كنت أعلم بما يجري. و لكن الدكتور برهان أدرك أنه لا يمكنه التعامل مع تركيبة المجلس التي فُرضت عليه، لهذا عمد إلى إعادة هيكلة هذا المجلس. لهذا الغرض عُقد مؤتمر الدوحة بين 5-8 أيلول/سبتمبر. دُعي إلى مؤتمر الدوحة كل من هيئة التنسيق و إعلان دمشق و الإخوان المسلمين و كتلة المغتربين التي تنوي إقامة مجلسها الخاص (و كانت من ذلك الحين فصاعداً تسمى بمجموعة إسطنبول). فشل المؤتمر لسببين، الأول لأن البعض ظن خاطئاً أن المؤتمر هو فخ لإجبارهم على القبول بمبادرة الجامعة العربية الأولى، و الثاني لأن مجموعة إسطنبول كانت مصممة على عقد مؤتمرها المزمع عقده في 16 أيلول/سبتمبر لتشكيل مجلسها. و هكذا تم إفشال مؤتمر الدوحة و الإعلان من قبل مجموعة إسطنبول عن "المجلس الوطني السوري"، و ضم في ذلك التاريخ 70 عضواً من الداخل و 70 عضواً من الخارج تقريباً جميعهم من الهواة في السياسة.
و لعدم قناعة معظم القوى السياسية بما جرى، تمت متابعة العمل على لم شمل المعارضة، و هكذا تم عقد مؤتمر جديد للمعارضة في إسطنبول بتاريخ 28 أيلول/سبتمبر، و ضم الإخوان المسلمون و إعلان دمشق و مجموعة إسطنبول و الأستاذ برهان غليون و ممثلي الحراك الثوري، و لم تشارك فيه هيئة التنسيق فقط لأنه عقد في إسطنبول، و كان هذا خطأ كبير من قبلها. نجم عن ذاك الإجتماع تشكيل "المجلس الوطني السوري" بتركيبته الحالية التي تضم ست كتل هي: الإخوان المسلمين و كتلة المجلس الوطني القديم (مجموعة إسطنبول) و كتلة المستقلين (برهان غليون) و كتلة الحراك الثوري و الكتلة الكردية و المنظمة الآشورية الديمقراطية. شيئان يجب ملاحظتهما هو أن المجلس الجديد حمل نفس إسم المجلس القديم الذي شكل بتاريخ 16 أيلول/سبتمبر، فقط ليقولوا أنهم الأساس، و ضم كل أعضاء ذلك المجلس و الذين أغلبهم من الهواة في السياسة، و لربما لم يقرؤوا كتاباً واحداً عنها في حياتهم. هكذا نشأ المجلس الذي إنتظرناه طويلاً، ليضم أكثر من 240 شخصاً، أغلبهم عالة على المجلس نفسه و أيضاً على الثورة التي يدفع الناس في حمص و غيرها من المدن ثمنها بأرواحهم و أرزاقهم.
منذ البداية، و بدل من أن يركز المجلس جهوده على رص صفوفه المتناثرة في كل أنحاء العالم، و التي لا تعرف بعضها البعض لا بالوجه و لا بالشخص، عمد المجلس إلى تصوير نفسه على أنه "الممثل الشرعي و الوحيد للشعب السوري" على الصعيدين الداخلي و الخارجي، و جعل من ذلك الأمر قضية كبرى من قضاياه، و لم أفهم شخصياً الحكمة من ذلك! نجح المجلس في البداية في هذا السعي على الصعيد الداخلي عن طريق تجييش العواطف و لجوئه إلى طرق لا تنم عن أخلاق سياسية صاحية، و إستخدام لذلك صفحة الثورة السورية التي مسؤوليها أعضاء في المجلس، و التي كان من المفترض أن تبقى فوق الخلافات السياسية الداخلية للمعارضة، كل هذا تم رغم أنني كنت قد نبهت مسؤوليها بنفسي حول هذا الموضوع، إذ لي إتصال شخصي مع أحدهم. و لكن فشل المجلس على الصعيدين العربي و العالمي في نزع ذلك الإعتراف. بالإضافة لذلك ، فإن نجاحه الأولي على الصعيد الداخلي لم يكن من غير ثمن، إذ إنه خلق شرخاً و ريبة بينه و بين بقية فصائل المعارضة.
ثم إبتدأت المشاكل داخل المجلس عينه تظهر، فتوالت الإستقالات فيه لتعبر عن مدى الخلافات الشخصية بين أعضائه، هكذا جاءت إستقالة محمد العبد الله و مرح البقاعي كأمثلة واضحة على ذلك. كما بدأت علامات التململ من البنية المترهلة للمجلس تظهر باكراً، هكذا إنفصل عماد الدين الرشيد عن مجموعة إسطنبول، و أسس مجموعة خاصة به. و عندما زرت تونس في شهر كانون الأول الماضي، و إلتقيت بالعديد من أعضاء المجلس فوراً بعد إنتهاء إنعقاد أمانته العامة، كان عدم الرضا واضحاً على كل الوجوه التي إلتقيت. ثم جاء مؤخراً تشكيل "مجموعة العمل الوطني" كأبرز تجسيد على التململ الكبير داخل المجلس. كما جاءت الخلافات على الرئاسة فيه لتعبر عن أطماع السلطة في داخله. أما الإتفاق المجهض مع هيئة التنسيق فكان الطامة الكبرى، إذ لم يؤدي فقط إلى قطع الشعرة الوحيدة الباقية بين هيئة التنسيق و المجلس، بل أظهر رياء و ديماغوجية بعض أعضاء قيادة المجلس و أيضاً الخلل في آلية أخذ القرار في داخل أجهزته .
أما في دعمه للثورة السورية، فإعتمد على الحل الدبلوماسي كحل وحيد للأزمة السورية، هكذا نقل الصراع مع النظام إلى المجالين العربي و العالمي، بينما أهمل الصعيدين الميداني و السياسي. ، فخسر المجلس الكثير من الدعم في أوساط الشعب الثائر على الأرض، و الشعب السوري المؤيد للثورة، و كثير من شخصيات المعارضة التي إرتأت في البداية أن تعطيه فرصته. فوق ذلك فمن الناحية الديبلوماسية، تعامل مع الموضوع بسذاجة، فأخذ قضيته إلى الجامعة العربية التي لم تتعامل مع ملف مثل هذا من قبل. و بالرغم من أن قيادات المجلس لاقت ترحيباً من القادة العرب في البداية، إلا أن المسؤولين العرب بدؤوا يتململون من التصرفات الصبيانية لقادة المجلس، حتى وصل الحال تقريباً إلى التجاهل الكلي لقادة المجلس من قبل المسؤولين العرب. هكذا أسلم قادة المجلس الملف السوري إلى حمد بن جاسم الذي أصبح يتصرف بالملف السوري دون إستشارتهم، و هذا ما صرح لي به أحد مسؤولي المجلس ببنات شفتيه. و ها نحن عالقون في وسط ضياع عربي في كيفية التعامل مع القضية السورية، و مواجهة عالمية على الأرض السورية.
إذا كان قد شكل تجمع المعارضة السورية -التي عُرف عنها تشتتها الفظيع- في كيانين إثنين رئيسين مرحلة بارزة في تاريخ المعارضة السورية، فإن الأعطاب التي مازالت تكبل هذين الفصيلين تشكل نقطة الضعف الكبرى للثورة السورية. فواحد منهما منفصل عن واقعه، وبإنفصاله هذا خلق شرخاً بينه و بين الشعب الثائر، و الآخر مشلول بخلل بنيته الداخلية و بهوسه بالحصول على صفة "الممثل الشرعي و الوحيد". هكذا بينما يدفع الشعب ثمن طلبه للحرية الكثير من العذابات و الدماء، تقف الطبقة السياسية عاجزة عن تقدير هذه التضحيات و قيادتها إلى نتيجتها الفضلى.
لم تكن هذه الضرورة خافية عن بعض أوساط المعارضة. هكذا و إبتداءً من 25 آذار/مارس بادرت بعض الشخصيات إلى تشكيل تنظيم إئتلافي يجمع مختلف أحزاب المعارضة، أثمرت هذه الجهود التي إستمرت ثلاثة أشهر عن تشكيل هيئة التنسيق الوطنية في 30 حزيران/يونيو. ضمت هيئة التنسيق عدداً واسعاً -إلى حد ما- من فصائل و شخصيات المعارضة -و لكن أغلبها ذو ميول يسارية- إلا أنها لم تضم كل أطياف المعارضة، إذ غاب عنها تياران مهمان هما إعلان دمشق و حركة الإخوان المسلمين، و أيضاً غاب عنها تمثيل جزء كبير من الشارع السوري ليس يساري الهوى. إشتهرت هيئة التنسيق بلاءاتها الثلاث "لا للطائفية، لا للعنف، لا للتدخل الأجنبي". لم تدرك الهيئة أنها لا يمكنها أن تقيم برناماجاً لثورة قائماً فقط على كلمة "لا". فالثورة عمل إيجابي فاعل، لا بل هو أشدها فاعلية، و فقط بعد رفع شعار الفعل الإيجابي و التغيير، يمكن وضع ضوابط له. هكذا فبينما إتفقت الهيئة بشعارها "لا للطائفية" مع الغالبية العظمى من الشعب السوري، فإنها بشعارها "لا للتدخل الأجنبي" و قفت على نقيض جزء كبير من الشعب الثائر الذي رفع لافتات تؤيد الحظر الجوي و المناطق الآمنة. كما أن تصلبها و مطلقية طرحها لشعار "لا للعنف" جعلها تقف موقفاً عدائياً من الجيش الحر أو هؤلاء الذين رفعوا السلاح للدفاع عن أنفسهم، مما أوسع الهوة بينها و بين الشباب الثائر. و لكن أكثر ما أضر بها في هذا المجال هو تأخرها بطرح شعار إسقاط النظام، فبينما رفع الشعب هذا الشعار إبتدأَ من شهر أيار، لم تلفظه هيئة التنسيق حتى شهر أيلول. هكذا ظهرت هيئة التنسيق ليس فقط غير قادرة على القيام بمهمة الموجه السياسي للحراك الشعبي، بل أيضاً غير قادرة عن فهم إمنيات و طموحات الشعب. كل هذا -بالإضافة للتصلب التنظمي و فردية قياداتها- أدى إلى إنسحاب عدد كبير من مؤسسيها الأوائل منها كميشيل كيلو و عارف دليلة و حبيب عيسى و حازم نهار و برهان غليون.
و بينما كانت تجري المساعي لتشكيل هيئة التنسيق، تم عقد أول مؤتمرين للمعارضة في الخارج، أعني بهما مؤتمري أنطاليا (31 أيار/مايو2- حزيران/يونيو) و بروكسل (5-4 حزيران/يونيو). كلاهما عقدا بحسب زعم منظميهما من أجل تعبئة شعبية للحراك الثوري. هكذا لم ينجم عن كليهما أي صياغة لإطار سياسي للثورة، مع أنني كنت قد بعثت بإقتراح لتشكيل مجلس إنتقالي مكون من خمسة أشخاص إلى مؤتمر إنطاليا.
ثم جاء مؤتمر الإنقاذ الوطني الذي عقد في 16-17 تموز/يوليو، و كان من المقررأن يعقد في دمشق و إسطنبول في آن معاً، و لكن النظام منع الجزء الدمشقي منه بإرتكابه مجزرة في المكان المقرر لحدوثه راح ضحيتها 24 شخصاً. هكذا عقد منه فقط الجزء الإسطنبولي، فغلب عليه الطابع الإسلاماني. وضع منظمو هذا المؤتمر له هدفين: الأول بناء صورة لسورية مابعد الأسد و الثاني تشكيل حكومة ظل. و قد وضع المنظمون هذين الهدفين بناء على إعتقادهم أن سقوط النظام الأسدي كان آنياً، هكذا كان علينا أن نعبّأ المجتمع حول مشروع سوريا الجديدة و نسدّ الفراغ المؤسساتي الناجم عن سقوطه بحكومة ظليلة. ولكن المؤتمر فشل فشلاً ذريعاً، إذ إن فكرة تشكيل حكومة ظّل كانت بعيدة كل البعد حتى عن متطلبات الثورة في ذلك الحين، فالنظام الأسدي لم يكن آني السقوط و المعارضة لم تكن مهيئة لتشكيل أي كيان سياسي يدير عملها وذلك بسبب تشرذمها. هكذا إختتم هذا المؤتمر أعماله بتشكيل لجنة تدعو إلى مؤتمر جديد يضم كل أطياف المعارضة.
و لكن بدل أن تعمل هذه اللجنة على تنظيم مؤتمر جديد يضم كل أطياف المعارضة السياسية، عمل بعض أعضائها على تنظيم مؤتمر جديد في إسطنبول في 20 آب/أغسطس يضم مغتربين معارضين غالبيتهم العظمى قاطنة في الشمال الأمريكي و لم يكن لهم أي باع في العمل السياسي، و ضم إليه مندوبين عن مؤتمري إنطاليا و بروكسل و الكتلة الإسلامانية التي ساهمت بتنظيم مؤتمر الإنقاذ، و كان الهدف من هذا المؤتمر تشكيل مجلس تحت إسم "المجلس الوطني السوري". و لكن إعترض على هذا الموضوع مندوبي مؤتمر إنطاليا و بروكسل و إنسحبوا من هذا المؤتمر، و لما كانوا على علم أن المغتربين الأمريكيين مصممون على تشكيل مجلسهم، شكل هؤلاء مجلساً على عجل في 29 آب/أغسطس مكوناً من أكثر من 150 شخصية دون إستشارة أي من الأعضاء المختارين و و ضعوا على رأسه الدكتور برهان غليون أيضاً دون إستشارته.
قبل الدكتور برهان بالمهمة الموكلة إليه، و كنت واحداً من الذين شجعوه على هذا، لأنني كنت أعلم بما يجري. و لكن الدكتور برهان أدرك أنه لا يمكنه التعامل مع تركيبة المجلس التي فُرضت عليه، لهذا عمد إلى إعادة هيكلة هذا المجلس. لهذا الغرض عُقد مؤتمر الدوحة بين 5-8 أيلول/سبتمبر. دُعي إلى مؤتمر الدوحة كل من هيئة التنسيق و إعلان دمشق و الإخوان المسلمين و كتلة المغتربين التي تنوي إقامة مجلسها الخاص (و كانت من ذلك الحين فصاعداً تسمى بمجموعة إسطنبول). فشل المؤتمر لسببين، الأول لأن البعض ظن خاطئاً أن المؤتمر هو فخ لإجبارهم على القبول بمبادرة الجامعة العربية الأولى، و الثاني لأن مجموعة إسطنبول كانت مصممة على عقد مؤتمرها المزمع عقده في 16 أيلول/سبتمبر لتشكيل مجلسها. و هكذا تم إفشال مؤتمر الدوحة و الإعلان من قبل مجموعة إسطنبول عن "المجلس الوطني السوري"، و ضم في ذلك التاريخ 70 عضواً من الداخل و 70 عضواً من الخارج تقريباً جميعهم من الهواة في السياسة.
و لعدم قناعة معظم القوى السياسية بما جرى، تمت متابعة العمل على لم شمل المعارضة، و هكذا تم عقد مؤتمر جديد للمعارضة في إسطنبول بتاريخ 28 أيلول/سبتمبر، و ضم الإخوان المسلمون و إعلان دمشق و مجموعة إسطنبول و الأستاذ برهان غليون و ممثلي الحراك الثوري، و لم تشارك فيه هيئة التنسيق فقط لأنه عقد في إسطنبول، و كان هذا خطأ كبير من قبلها. نجم عن ذاك الإجتماع تشكيل "المجلس الوطني السوري" بتركيبته الحالية التي تضم ست كتل هي: الإخوان المسلمين و كتلة المجلس الوطني القديم (مجموعة إسطنبول) و كتلة المستقلين (برهان غليون) و كتلة الحراك الثوري و الكتلة الكردية و المنظمة الآشورية الديمقراطية. شيئان يجب ملاحظتهما هو أن المجلس الجديد حمل نفس إسم المجلس القديم الذي شكل بتاريخ 16 أيلول/سبتمبر، فقط ليقولوا أنهم الأساس، و ضم كل أعضاء ذلك المجلس و الذين أغلبهم من الهواة في السياسة، و لربما لم يقرؤوا كتاباً واحداً عنها في حياتهم. هكذا نشأ المجلس الذي إنتظرناه طويلاً، ليضم أكثر من 240 شخصاً، أغلبهم عالة على المجلس نفسه و أيضاً على الثورة التي يدفع الناس في حمص و غيرها من المدن ثمنها بأرواحهم و أرزاقهم.
منذ البداية، و بدل من أن يركز المجلس جهوده على رص صفوفه المتناثرة في كل أنحاء العالم، و التي لا تعرف بعضها البعض لا بالوجه و لا بالشخص، عمد المجلس إلى تصوير نفسه على أنه "الممثل الشرعي و الوحيد للشعب السوري" على الصعيدين الداخلي و الخارجي، و جعل من ذلك الأمر قضية كبرى من قضاياه، و لم أفهم شخصياً الحكمة من ذلك! نجح المجلس في البداية في هذا السعي على الصعيد الداخلي عن طريق تجييش العواطف و لجوئه إلى طرق لا تنم عن أخلاق سياسية صاحية، و إستخدام لذلك صفحة الثورة السورية التي مسؤوليها أعضاء في المجلس، و التي كان من المفترض أن تبقى فوق الخلافات السياسية الداخلية للمعارضة، كل هذا تم رغم أنني كنت قد نبهت مسؤوليها بنفسي حول هذا الموضوع، إذ لي إتصال شخصي مع أحدهم. و لكن فشل المجلس على الصعيدين العربي و العالمي في نزع ذلك الإعتراف. بالإضافة لذلك ، فإن نجاحه الأولي على الصعيد الداخلي لم يكن من غير ثمن، إذ إنه خلق شرخاً و ريبة بينه و بين بقية فصائل المعارضة.
ثم إبتدأت المشاكل داخل المجلس عينه تظهر، فتوالت الإستقالات فيه لتعبر عن مدى الخلافات الشخصية بين أعضائه، هكذا جاءت إستقالة محمد العبد الله و مرح البقاعي كأمثلة واضحة على ذلك. كما بدأت علامات التململ من البنية المترهلة للمجلس تظهر باكراً، هكذا إنفصل عماد الدين الرشيد عن مجموعة إسطنبول، و أسس مجموعة خاصة به. و عندما زرت تونس في شهر كانون الأول الماضي، و إلتقيت بالعديد من أعضاء المجلس فوراً بعد إنتهاء إنعقاد أمانته العامة، كان عدم الرضا واضحاً على كل الوجوه التي إلتقيت. ثم جاء مؤخراً تشكيل "مجموعة العمل الوطني" كأبرز تجسيد على التململ الكبير داخل المجلس. كما جاءت الخلافات على الرئاسة فيه لتعبر عن أطماع السلطة في داخله. أما الإتفاق المجهض مع هيئة التنسيق فكان الطامة الكبرى، إذ لم يؤدي فقط إلى قطع الشعرة الوحيدة الباقية بين هيئة التنسيق و المجلس، بل أظهر رياء و ديماغوجية بعض أعضاء قيادة المجلس و أيضاً الخلل في آلية أخذ القرار في داخل أجهزته .
أما في دعمه للثورة السورية، فإعتمد على الحل الدبلوماسي كحل وحيد للأزمة السورية، هكذا نقل الصراع مع النظام إلى المجالين العربي و العالمي، بينما أهمل الصعيدين الميداني و السياسي. ، فخسر المجلس الكثير من الدعم في أوساط الشعب الثائر على الأرض، و الشعب السوري المؤيد للثورة، و كثير من شخصيات المعارضة التي إرتأت في البداية أن تعطيه فرصته. فوق ذلك فمن الناحية الديبلوماسية، تعامل مع الموضوع بسذاجة، فأخذ قضيته إلى الجامعة العربية التي لم تتعامل مع ملف مثل هذا من قبل. و بالرغم من أن قيادات المجلس لاقت ترحيباً من القادة العرب في البداية، إلا أن المسؤولين العرب بدؤوا يتململون من التصرفات الصبيانية لقادة المجلس، حتى وصل الحال تقريباً إلى التجاهل الكلي لقادة المجلس من قبل المسؤولين العرب. هكذا أسلم قادة المجلس الملف السوري إلى حمد بن جاسم الذي أصبح يتصرف بالملف السوري دون إستشارتهم، و هذا ما صرح لي به أحد مسؤولي المجلس ببنات شفتيه. و ها نحن عالقون في وسط ضياع عربي في كيفية التعامل مع القضية السورية، و مواجهة عالمية على الأرض السورية.
إذا كان قد شكل تجمع المعارضة السورية -التي عُرف عنها تشتتها الفظيع- في كيانين إثنين رئيسين مرحلة بارزة في تاريخ المعارضة السورية، فإن الأعطاب التي مازالت تكبل هذين الفصيلين تشكل نقطة الضعف الكبرى للثورة السورية. فواحد منهما منفصل عن واقعه، وبإنفصاله هذا خلق شرخاً بينه و بين الشعب الثائر، و الآخر مشلول بخلل بنيته الداخلية و بهوسه بالحصول على صفة "الممثل الشرعي و الوحيد". هكذا بينما يدفع الشعب ثمن طلبه للحرية الكثير من العذابات و الدماء، تقف الطبقة السياسية عاجزة عن تقدير هذه التضحيات و قيادتها إلى نتيجتها الفضلى.
ملاحظة: كتبت هذه المقالة و نشرت في الحوار المتمدن في شهر آذار 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق