السبت، 21 يوليو 2012

تحديات المرحلة الإنتقالية في سوريا -رقم 1- المشاركة الشعبية في العملية السياسية



·        طبيعة المشاركة الشعبية في العملية السياسية:

غاية العملية السياسية هي مساعدة الشعب على تحقيق حاجاته الأساسية من طعام و أمان و صحة و تعليم و عمل و إبداع و تحقيق ذات. و لكن من يستطيع تحسس حاجات الشعب غير الشعب نفسه، لهذا لا يمكن للسياسي أن يقوم بعمله على أكمل وجه من غير تواصل مع الشعب و السماع له و التفهم لطلباته و أمنياته. غير أن هذه الطلبات و الأمنيات غالباً ما تأتي عفوية و فطرية و أحياناً إنفعالية لا تنظر للأمور بكليتها، لهذا فإنه من واجب الطبقة السياسية التمعن بها و صياغتها على شكل قوانين و سياسات و إجراءات كل هذا بالتعاون مع التكنوقراطيين الذين يشغلون إدارات الدولة . و أخيراً فإنه من واجب السياسيين إلهام الشعب و تفعيله و تنظيم عمله.

بالمقابل بقدر ما تنجح العملية السياسية في تحقيق غايتها هذه فإنها تكتسب إهتمام الشعب بها و مشاركته الفعالة فيها. و الحال، إن هذه المشاركة الإيجابية هي ضرورية لنجاح العملية السياسية ذاتها، إذ إن الشعب ليس فقط مستهلك في هذه العملية بل أيضاً منفذ و منتج لها، و ذلك عبر الإنجازات المهنية لأفراده و تحقيق واجباتهم المدنية و إختيارهم الحر لقياداتهم السياسية و أيضاً تشكيل الهيئات غير الحكومية.

 هكذا يمكننا تشبيه العلاقة بين الشعب و الطبقة السياسية كالعلاقة بين الدماغ و أعضاء الجسم، فالدماغ يتلقى التنبيهات الحسية من مختلف أعضاء الجسم -و التي هي عفوية و خام- ليحللها و يقرر ما يجب عمله لضمان صحة الجسم ككل و من ثم يرسل التعليمات للأعضاء لتقوم بما يجب عمله، هكذا يضمن الجسم سلامته و حسن عمله عبر التناسق و التناغم بين أعضائه. و لهذا إذا ما إنقطعت العلاقة العضوية بين الطبقة السياسية و الناس فإن ذلك يقود إلى الخلل الوظيفي (أي الفوضى) و الألم (أي التذمر) و المرض (أي الإضطرابات) و ربما الوهن و الموت) و هذا ما وصل إليه حكم الأسد(.

·        معوقات المشاركة الشعبية في العملية السياسية في المرحلة الإنتقالية:

و الحق، إن إقامة مثل هذه العلاقة العضوية بين الشعب و الحكومة الإنتقالية ستكون واحدة من أبرز التحديات التي ستواجه هذه الحكومة، إذ يقف حيالها صعوبات و معوقات جمّة أهمها:

1.      الحالة الأمنية: مما لا شك فيه أن لا أحد يستطيع التكهن كيف ستكون الحالة الأمنية بعد سقوط النظام، و لكن هناك دلائل عديدة تشير إلى أنها ستكون صعبة، فهناك عصابات الشبيحة، و هناك تسليح النظام لمدنيين من طائفة معينة، و هناك التجييش الطائفي، و هناك مدنيون يتسلحون رداً على إنتهاكات النظام، و أخيراً هناك شروخات في الجيش و تقاتل بين أفراده. فكل هذا ينذر أن الحالة الأمنية ستكون واحدة من التحديات التي ستواجه الحكومة الإنتقالية مستنفذة قواها و مانعة إياها من توفير حاجات المواطنين و إقامة علاقة صحية معهم.

2.      الدمار و الخراب: لا أحد يعرف ما هو حجم الخراب و الدمارالحاصل في بعض المدن كاللاذقية و درعا و حماة و جسر الشغور و إدلب و تلكلخ و الرستن و حمص. و أيضاً هناك مليون و نصف المليون جائع بحسب منسقة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، و هذا العدد مرشح للتزايد. فمن سيؤمن لهؤلاء المسكن و الطعام؟ فإذا ما تأخرت الحكومة الإنتقالية في معالجة هذا الموضوع، فذلك سيخلق شرخاً بينها و بين سكان هذه المناطق و سيؤدي إلى إبتعادهم و عزلتهم عن العملية السياسية، و ربما نشؤ إحتجاجات.

3.      الوضع الإقتصادي : بحسب دراسة قام بها برنامج التنمية في الأمم المتحدة بين عامي 2004-2007  فإن نسبة الناس التي تعيش تحت خط الفقر كانت 34% أي 7 ملايين نسمة و منها 12% أي 2.5 مليون يعيشون في فقر مدقع. في دراسة أجراها مركز فولفينسون للتنمية عام 2007 ، و صلت نسبة البطالة المسجلة رسمياً إلى 25% بين الذين هم في سن العمل، و بلغت بشكل خاص إلى حوالي 50% بين الشباب الذين بين أعمار 15-24 عاماً. طبعاً لا شك أن هذا مدلول كبير على الحالة البائسة التي كان يعانيها الإقتصاد السوري قبل الثورة. و لكن مع حدوث الثورة إنضربت مختلف القطاعت الزراعية و السياحية و أيضاً قطاع البترول. فعلى الصعيد الزراعي، إن إنشغال الفلاحين بالثورة،  و تدمير النظام لأراضيهم و مواشيهم، و فوق ذلك تقطع وسائل المواصلات و أيضاً شح الوقود أدى إلى تعطل الإنتاج الزراعي. أما على الصعيد السياحي فإن أكثر من 95% من السياحة الخارجية قد توقف.  و أما إنتاج البترول فقد إنخفض بنسبة أكثر من 60%، و الإنتاج الباقي بالكاد يؤمن الحاجة الداخلية السورية. و جاءت العقوبات الأوروبية و الأمريكية و أخيراً العربية لتشل التجارة السورية. كل هذا أدى إلى إرتفاع سعر الليرة، و نقص السيولة المادية، و نقص الإحتياطي من العملة الأجنبية. إن كل هذا سيضع عبئاً كبيراً على الإقتصاد سيستمر لسنوات عدة بعد سقوط النظام.

4.      التوترات الطائفية: كلنا نعرف أن النظام منذ بداية الأحداث فاقم لعبه على الوتر الطائفي فإدعى أن الثورة ذات لون طائفي واحد، لا بل يقودها متطرفون من تلك الطائفة، و أفهم بعض الطوائف أن و جودها بخطر، و أقنع طوائف أخرى أن طريقة حياتها و مواردها الإقتصادية هي على المحك، كلنا نعرف أن هذا غير صحيح. و لكن هذا أدخل هذه الطوائف بحالة خوف و ريبة، وهذا الخوف و الريبة يتعمقان كل يوم مع الإشاعات و الحروب الإعلامية. كل هذا سيدخل أبناء هذه الطوائف في حالة عزلة تمنعها عن المشاركة الفعالة في العملية السياسية، قد  تكون هذه العزلة طويلة المدى إذا لم يتم معالجتها بشكل صحيح.

5.      الإنقسام الحاد في المجتمع السوري تجاه الثورة: لا أبالغ إستقطاباً حاداً فيما يخص الثورة في المجتمع السوري. هذا مايتبين من خلال الإستفتاءات المتكررة التي تحمل العناوين "هل أنت معارض أم مؤيد؟"، طبعاً المشكلة ليست في الإنقسام بل في حدّية هذا الإنقسام. كتب لي أحد أصدقائي يقول أن الكثير من رفاقه أصبحوا يتهمونه بأنه خائن و عميل و لم يعودوا يتكلمون معه و صار مرذولاً بينهم لأنه يؤيد الثورة. تقول الشاعرة رشا عمران) و هي من طرطوس(:  "حتى الآن ، أنا شخصيا لم أتعرض لأية مضايقة أمنية مباشرة ، هذا حقيقي، ولكن عندما ترسل لي تهديدات بالقتل من مدينتي باعتباري رأس الفتنة هناك ، وعندما يهددني (إبن عمتي) وبعض أقاربي بأنهم في حال سقوط النظام سينتقمون مني بابنتي ، فلا أستطيع إبعاد المزاج الأمني عن هذه التهديدات ! "لا شك أن كل هذا الإنقسام المجتمعي لن ينتهي فور سقوط النظام، و هو سيمتد إلى أشهر أو ربما سنوات بعد سقوطه. كل هذا الإنقسام و الإستقطاب سيعيق الشعب عن المشاركة في إعادة الحياة في سوريا الجديدة إلى حالة شبه طبيعية. و الحال، إن هذه الإعادة هي جوهر العملية السياسية في المرحلة الإنتقالية. 

6.      عدم إتقان الشعب لممارسة العملية السياسية: بالرغم من أن سوريا شهدت منذ الإستقلال بعض السنوات من الحكم ذي الطبيعة الديمقراطية) عملياً من 1946 -1949 و من 1954 – 1958)، لكنها لم تشهد حياة ديمقراطية حقيقية، إذ لم تتميز بمشاركة شعبية في العملية السياسية. و كان ذلك لعوامل عدة منها:
       I.            العصبية العرقية و الطائفية في المجتمع السوري.
    II.            الإنقسام الحاد بين فئات الشعب المختلفة: المدينية و الريفية و البدوية و خصوصاً مع سيادة الروح القبلية في القرى و العشائرية في البادية. و حتى في المدن كان هناك فصام بين عامة الشعب و الطبقة البرجوازية.
 III.             الإهمال الكبير الذي عانته المناطق القروية و البدوية.

هكذا إنشغل السوريون بأمور ضيقة الأفق، فنشأ فصام بين الحياة اليومية للسوريين و العملية السياسية، و تجلى هذا بعزوف كثيرين منهم عنها، و إذا يوماً ما شاركوا بأحد أوجهها ) و غالباً ما يكون الإنتخاب البرلمانية ( فيكون ذلك لسبب عرقي أو طائفي أو قبلي و ليس للحفاظ على مصلحة البلد، و إن تكلموا فيها فبسبب تعصب حزبي أو أيديولوجي أعمى و ليس لمناقشة أمورٍ حياتية تهمهم كمواطنين.
 ثم جاءت السنوات العجاف للحكم الأسدي فمحت كل ذاكرة سياسية و أبعدت الشعب كلية عنها. لهذا كله نرى أن 50% من الشعب السوري ما زال يقبل بنظام سياسي مجرم على رأسه رجل مهبول و كأن ليس لهم أي حس أو أخلاق سياسية. و أيضاً نشاهد الآن إنقسامات و صراعات مازالت تحمل جذوراً من الماضي فيها شئ من العصبية العرقية و الطائفية و الأيديولوجية الصلبة، و محاولة إمحاء كل من لا يتفق معنا بالرأي، و فوق ذلك سطحية سياسية و عدم فهم لمعنى المواطنة لا من حيث الحقوق و لا الواجبات.

7.      عدم إتقان الطبقة السياسية لفن السياسة: ما ينطبق على الشعب السوري من حيث فقدانه للوعي السياسي ينطبق أيضاً على الطبقة السياسية. لتوضيح هذه الفكرة دعوني أعود إلى فترة مابعد الإستقلال، إذ سيكون هناك تشابه كبير بين هذه الفترة و المرحلة التي ستلي سقوط الأسد. فمعركة الإستقلال كانت ثورة سلمية بكل معنى الكلمة، قادها آباء الإستقلال بكل مثابرة و ذكاء، و إنتهت بتأسيس جمهورية مدنية تعددية مبنية على مؤسسات ذات طبيعة ديمقراطية. و لكنهم بعد الإستقلال إرتكبوا أخطاءً كثيرة أدت إلى إجهاض هذه الديمقراطية و من ثُمّ موتها، لهذا يجب الإنتباه لعدم تكرارها في المرحلة الإنتقالية القادمة:
                               I.            إعتبروا أنه بمجرد الإستقلال و تشكيل دولة مدنية قائمة على أساس مؤسسات ذات صبغة ديمقراطية يتساوى فيها كل الأفراد فإن كل مشاكل سوريا إنتهت. لذلك لم يجهزوا أي برنامج إقتصادي أو إجتماعي و لم يقوموا بأي إصلاح إداري.
                            II.            إعتمدت النخب السياسية في حملاتها الإنتخابية على تاريخها النضالي بدل إعتمادها على برامج إقتصادية أو إجتماعية تمس حياة المواطنين مباشرة.
                         III.            فوراً بعد الإستقلال إنقسمت الكتلة الوطنية إلى حزبين هما الحزب الوطني و حزب الشعب و ذلك بحسب رؤيتهما لهوية سوريا الوطنية، فبينما أراد حزب الشعب لها أن تكون جزءاً من الكتلة الهاشمية (الأردن و فلسطين و العراق)، نظر الحزب الوطني إليها كدولة مستقلة في محيطها العربي. و بدلاً من أن يلجأ الطرفان للشعب (أي للإستفتاء العام) للفصل في هذا الموضوع، تحول هذا الأمر إلى صراعات شخصية أدمت الطرفين، و كأن الشعب لا يحق له أن يكون لاعباً سياسياً معنياً بمصير البلد.
                         IV.             إبتعد الإهتمام و الخطاب السياسيان عن أمور المواطن العادي ليتركز على أمور العالم العربي و رؤية كل طرف لموقع سوريا في هذا العالم.
                            V.            لتقوية نفوذه في الداخل لجأ كل طرف إلى المحسوبيات، هكذا إنتشر الفساد في إدارات الدولة و خسر الطرفان قاعدتهما الشعبية.
                         VI.            لم يدرك شكري القوتلي أهمية رص الصف الداخلي قبل بدء الحرب، هكذا لم يؤسس حكومة وحدة وطنية، و هذا ما كان يطلبه حزب الشعب. بل لجأ إلى تغيير الدستور ليحق له الترشح للمرة الثانية لرئاسة الجمهورية. بالمقابل لجأ حزب الشعب إلى تحريض الشارع ضد حكم القوتلي بالرغم من أن سوريا كانت في حالة حرب. و طبعاً هذه جريمة كبرى.
                      VII.            رفضت الطبقة السياسية أن تتحمل مسؤولية فشلها في الحرب و هذا كان واحد من أسباب إنقلاب حسني الزعيم. و الغريب أن الطبقة السياسية لم تفعل أي شئ لمقاومة هذا الإنقلاب، كل هذا ليدل على شللها. و أيضاً لم يهتم الشعب لهذا الإنقلاب على الديقراطية، و كأنه غير معني بالعملية السياسية.
                   VIII.            إزدياد نفوذ الجيش في العملية السياسية في الخمسينات و الستينات، و هذا قضى على الحياة السياسية المدنية.
                         IX.            الإيمان بعقائد جافة و إستعمال لغة التخوين في الخمسينات و الستينات، و هذا شلّ العملية السياسية كلياً.
                            X.            جاء أخيراً حكم البعث ليميت كل نشاطٍ سياسي و يزرع فيه الريبة. هكذا إنتهينا مع طبقة سياسية تحمل شيئاً من كل الأمراض السابقة ولكنها ميتتة و مزروعة بالريبة أيضاً.

هكذا فإن تأسيس دولة تعددية مدنية ذات مؤسسات ديمقراطية لا يكفي لضمان عملية سياسية سليمة، فمن غير طبقة سياسية ذكية و فطنة تعرف متاهات اللعبة السياسية و أصولها فلا يمكن لهذه العملية الإستمرار، و من غير كتل سياسية تمتلك برامج إجتماعية و إقتصادية مدروسة و خلاقة لا يمكن لهذه العملية الإزدهار.

·        حلول و مقترحات:

لهذا كله و بسبب جسامة التحديات التي تنتظر الحكومة الإنتقالية فإنني سأطرح بعض الأفكار العملية التي ربما ستساعد على تجاوز هذه التحديات:

1.      تشكيل لجنة أمنية منذ الآن لدراسة المعوقات التي ستعيق السلم الأهلي.
2.      محاولة تشجيع أبناء المناطق المنكوبة ليقوموا بالبناء بأنفسهم و لكن الدولة ستقدم لهم العون. تشكيل لجان من أبناء هذه المناطق عينها للقيام بذلك. يجب التركيز على أن الشعب هو الذي يبني بينما الحكومة تساعد و توفر الإمكانيات و تدير.
3.      الطلب من المؤسسات العالمية غير الحكومية المشاركة في توفير الطعام و الدواء للمناطق المنكوبة.
4.      عقد مؤتمر إقتصادي دولي لمساعدة سوريا.
5.      الإتصال بأبناء الأقليات المؤيدين للثورة لوضع أفكار تساعد إندماج أقلياتهم في العملية الإنتقالية. إنها مسؤوليتهم تطمين أعيان و أبناء أقلياتهم فيما يخص الثورة و مستقبل البلد.
6.      عقد مؤتمر لرؤساء الطوائف في سوريا. ليس لكونهم شخصيات سياسية، بل لكونهم شخصيات وطنية إعتبارية لهم دور مهم في إلتئام الجرح الطائفي الذي حصل.  
7.      تشكيل لجنة مصالحة و تراضي لتحقق المصالحة بين فئات الشعب و لتلأم الجراح التي خلفتها الأزمة السورية الحالية .
8.      التركيز على أن سوريا الجديدة هي لجميع السوريين إن كانوا مع الثورة أو ضدها، و توجيه الشعب للتركيز على عملية البناء بدل الضياع في الخلافات غير المجدية.
9.      التوعية السياسية للسوريين، و تذكير الشعب بأهمية دوره الفاعل في العملية الإنتاجية و السياسية.
10.  تأهيل الكوادر السياسية منذ الآن لفهم مضمون العملية السياسية و إدراك فنونها و ذلك بعقد ورشات عمل، و أيضاً عبر مراكز الدراسات غير الحكومية.

 هكذا فإن إدراك الحكومة الإنتقالية للمعوقات التي ستقف حائلاً دون عيش المواطنين لحياة مستقرة و قدرتها على تجاوز هذه المعوقات مع الشعب نفسه سيحددان مقدار ثقة الشعب بالعملية السياسية و إشتراكه بها. و كل هذا لن يكون فقط ضرورياً لضمان فترة إنتقالية ناجحة بل أيضا للتأسيس لحياة ديمقراطية ذات أسس سليمة على المدى البعيد.


ملاحظة: قُدم هذا البحث في مؤتمر عقد في تونس بتاريخ 21 و 22 كانون أول/ديسمبر عام 2011 تحت عنوان "تحديات المرحلة الإنتقالية في سوريا".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق