الاثنين، 24 سبتمبر 2012

هل حسم المسيحيون أمرهم مع النظام؟!

بعد أن تشابكت الأسبوع الفائت في حي الجديدة في حلب مجموعة من الجيش الحر مع مجموعةٍ من اللجان الشعبية المكونة من عناصر يدينون بالديانة المسيحية، كتب لي صحفي من جريدة الشرق الأوسط يسألني: “هل حسم المسيحيون أمرهم مع النظام؟”، فكان جوابي على النحو التالي:

المسيحيون ليسوا كتلة سياسية واحدة، و لم يكونوا عبر تاريخهم كتلة سياسية واحدة، على الأقل منذ سقوط القسطنطينية في الشرق، و بروز عصر التنوير في الغرب .لهذا إن القول أن المسيحيين حسموا أمرهم مع النظام منافي للواقع. فالمسيحيون اتخذوا مواقف متباينة من الحراك الثوري منذ البداية -كما فعلت بقية الطوائف- فبينما كانت أغلبية المسيحيين غير راضية على النظام (بحسب تقديري أكثر من 90% من المسيحيين(،فإن موقف هؤلاء السلبي من النظام، لم ينعكس إلى موقف إيجابي من الثورة. إذ كان منذ البدء هناك مسيحيون، و مازالوا، مع الثورة و ضد النظام قلباً و قالباً و أغلب هؤلاء من المثقفين (بحسب تقديري 30% من المسيحيين). و مسيحيون آخرون كانوا يميلون للثورة و لكن يبحثون عن بديل في المعارضة قادر على الحكم ليُظهروا تأييداً واضحاً لها  (بحسب تقدير 35% من المسيحيين).  و فئة ثالثة ممن هم ليسوا مع النظام و لكنهم ليسوا مع الثورة لأنهم كانوا يتوجسون من الاسلام السياسي (بحسب تقديري 25% من المسيحيين) و أغلب هؤلاء يقطنون القرى أو من مسيحيي المدن و لكن ينتمون لطوائف  تشكل أقلية بين المسيحيين السوريين كالأرمن و الموارنة، إلا أن هذه الفئة الأخيرة لم تعادي الثورة إلا مؤخراً. أما العشرة بالمئة الباقية فهي تؤيد النظام لأن مصالحها تتقاطع معه.

منذ البداية عمل النظام على اظهار الثورة على أنها طائفية، و أن الذين يقومون بها سلفيون و مسلحون، مع أن الثورة لم  تكن طائفية، و لم يقم بها لا المسلحون و لا السلفيون. و لكن النظام نجح في تحويل جزء من الثورة إلى طائفي، و جذب السلفيين لها، و صار من أبطالها مسلحون، و للأسف تم كل ذلك بمساعدة بعض أطراف المعارضة. و كان هدفه من هذا التحويل  تبرير حله الأمني، و تقليب الأقليات على الثورة، و أيضاً تقليب الرأي العام العالمي عليها.

بالاضافة لهذا استخدم النظام منذ البداية اسلوب التجييش الطائفي. ففي البداية عندما انتفضت بانياس و جبلة، سلح النظام العلويين و المسيحيين في الساحل محذراً إياهم من العصابات الاسلامية المسلحة، مع أنه لم يكن هناك عصابات مسلحة في ذلك الحين ، ثم عندما خف الحراك في هاتين المدينتين، سحب الأسلحة من المسيحيين فقط. في حمص سلح النظام العلويين في وضح النهار، و على مرأى باقي السكان الذين أغلبهم من السُنة. أما في دمشق و في أوائل الحراك فكان يسلح تجار المصنوعات الشرقيين، و أغلبهم من المسيحيين،  بالعصي، و يقول لهم أن العصابات السلفية آتية ،مع أنه لم يكن هناك لا عصابات و لا سلفيون في دمشق في ذلك الوقت. هكذا استطاع النظام زرع أو تضخيم الريبة و الشك في قلوب أبناء الطوائف المتفرقة.

و لكن مع ازدياد تسلح الثورة، و اجتياح المد السلفي لجزء منها. صدق جزء من الأقليات، الشكوك التي زرعها فيهم النظام، فمثلاً  مجموعة المسيحيين التي لم تكن مع النظام و لا مع الثورة و كانت تتوجس الإسلام السياسي ،و التي قدرتها ب 25% من المسيحيين، أصبحت مع النظام و ضد الثورة. و الفئة الأخرى التي كانت تميل إلى الثورة، و التي قدرتها ب 35% من المسيحيين،  أصبحت تعبر عن استيائها من تسلح الثورة، و ذلك دون أن تصبح مؤيدة للنظام.

و الحال أن النظام عمد إلى دفع الثورة للتسلح ليس فقط لينزع عنها التأييد المحلي و العالمي، بل أيضاً ليستطيع اخمادها. فهو لا يعرف كيف يتعامل مع التظاهرات السلمية، و لكنه ظن أنه يستطيع اخماد الثورة إذا حولها إلى تمرد مسلح، كما أخمد تمرد حماة عام 1982. و لكن ما أخطأ في حسابه النظام أن التمرد المسلح هذه المرة واسع النطاق و له حاضنة شعبية، أي هو ثورة شعبية فيها وجه مسلح. هكذا لم يقدر النظام على قمع “التمرد المسلح”، و تحولت الحرب إلى حرب استنزاف تستهلك النظام و جيشه، و لكنها أيضاً تستنفذ الشعب و ترعبه. عندها عمد النظام إلى تشكيل اللجان الشعبية، و من الطبيعي أن تكون هذه اللجان من المسيحيين في المناطق ذات الغالبية المسيحية. و وجد النظام ضالته في الشباب الذين ينتمون للفئة التي قدرتها ب 25% من المسيحيين، و التي لم تكن مع النظام و لا مع الثورة و كانت تتوجس الإسلام السياسي، و لكنها أصبحت لاحقاً مع النظام و ضد الثورة، و أغلب هؤلاء ذوي مستويات معيشية ليست بعالية.

إذاً هل نستطيع أن نقول أن المسيحيين أصبحوا مع النظام، و الجواب “لا”،  إنما النظام نجح بدفع جزء قليل من المسيحيين ليخافوا من الثورة، و يعادونها، و سلحهم بحجة الدفاع عن أنفسهم من خطر بعضه أصبح حقيقياً، و كثير منه ما مازال وهماً.

الجمعة، 21 سبتمبر 2012

قصة نشوء الجيش السوري الحر



يشكل نشوء الجيش الحر و تطوره ظاهرة مهمة في الثورة السورية يجب دراستها بعناية، ليس فقط لأنه العنصر الأكثر إشكالية فيها، بل أيضاً لأنه أصبح أبرز وجوهها، و على الأرجح فإنه سيكون واحد من العوامل التي ستقرر نجاحها، و ترسم مصير سوريا.
كان نشوء الجيش الحر تطوراً طبيعياً و مفهوماً من الناحية العلمية التاريخية في مسيرة الثورة السورية، إذ تتسم الثورات الشعبية إجمالاً بالفوضى و العنف و لكن تختلف عن بعضها البعض في درجة هذه الفوضى و العنف. و الحق، إن درجة العنف هذه تتعلق بعدة عوامل و لكن أهمها على الإطلاق هو عنف السلطة. هكذا فالثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا عام 1989 و التي دامت ستة أسابيع و مارست فيها السلطة عنفاً محدوداً (إستخدام هروات فقط) أدت إلى وفاة متظاهر و احد فقط، بينما الإنتفاضة المصرية التي دامت ثلاثة أسابيع وتميزت بوحشية رجال الشرطة -حيث إستخدموا في بعض الأحيان الرصاص الحي-  فإنها إنتهت بمقتل 846 شخصاً من المدنيين و أيضاً 26 شخصاً من الشرطة. أما الثورة الأمريكية و التي إبتدأت كثورة سلمية و لكن حكومة صاحب الجلالة إستخدمت الجيش لقمعها إنتهت على شكل حرب أهلية دامت ثماني سنوات مات خلالها 25000 إنسان. لهذا يتساءل بعض الباحثين إذا كان هناك حقاً ثورة لاعنفية بالمعنى المطلق، و الإجابة لا، و إنما درجة العنف المستخدم هي التي تحدد فيما إذا كان يصح أن نطلق عليها عنفية أو لا عنفية 
.
لاشك أن الثورة السورية الحالية تشبه الثورة الأمريكية على نحو ما، فقد ابتدأت تمرداً محدوداً في درعا، ثم تحولت إلى ثورة لما أنكر النظام مشروعية مطالب الشعب و رد عليها بالوعيد و التهديد، فارتفع سقف مطالب الشعب إلى إسقاط النظام، و إتسعت رقعة الإحتجاج، عندئذ تحولت الإنتفاضة إلى ثورة شعبية. ثم لما اشتدت القمع العسكري على الثورة، شكل الشعب تنظيماته المسلحة كرد طبيعي على هذا القمع.

في العاشر من حزيران عام 2011، و أثناء حصار جسر الشغور، انشق العقيد حسين هرموش مع 150 جندي من جنوده أثناء حصار جسر الشغور، و فروا إلى تركيا، وشكل ما أسماه لواء الضباط الأحرار. و في التصريح الذي أعلن فيه انشقاقه، صرح أن غايتهم ستكون حماية المتظاهرين السلميين، و توجه إلى من وصفهم بالمضللين من قبل النظام قائلاً: "إن الشعب السوري سيغفر لكم، و لكن إذا لم تنضموا إلينا، فإنكم و طاغيتكم بشار ستحاكمون محاكمات عادلة".

في ٢٩ تموز ٢٠١١ و بعد فراره إلى تركيا شكل العقيد رياض الأسعد ما أسماه بالجيش السوري الحر مع ستة من الضباط المنشقين الذين فروا معه، و  أربعة من الذين بقوا في الداخل حسب ما ادعى. و أوضح أن دواعي تشكيل هذا الجيش نبعت من واجبهم الوطني ووفائهم للشعب لحمايته ووقف من النظام السوري القاتل، ثم أردف أنهم سيعملون سوية مع الشعب لتحقيق الحرية و الكرامة و اسقاط النظام، و ليحموا الثورة و موارد البلد.

أما في الداخل السوري فقد تشكلت أول كتيبة من كتائب الجيش الحر في الرستن. تشكلت هذه الكتيبة من منشقين عن الجيش إنضم إليهم العديد من المدنيين من أبناء المدينة، و الجدير بالذكر أن هؤلاء المنشقين هم من أبناء مدينة الرستن عينها و أغلبهم عاين حوادث درعا و بناء عليه قرروا الإنشقاق، فجلسوا مختبئين في مدينتهم، و لكن لما اشتدت إعتداءات الشبيحة و أجهزة الأمن على أهلهم، و أخذوا بالدفاع عنهم، و لما أتى الجيش ليحاصر مدينتهم، حاربوه، و في هذ الأثناء انضم لهم عدد من المدنيين فشكلوا ما يسمى كتيبة خالد بن الوليد.
في هذه الأثناء أخذ عدد المنشقين يتزايد في مختلف المدن، و أخذت دعوات التسليح لمواجهة الآلة القمعية للنظام تظهر من قبل بعض أطراف المعارضة -كمحمد رحال و لؤي الزعبي- ثم بدأت تنتشر دعوات التسليح على صفحات الفيسبوك، حتى صفحات التنسيقيات الإفتراضية -كتنسيقية القصاع و باب توما- لم تخلو من هذه الدعوات. هكذا تكاثر عدد الشبان الراغبين بحمل السلاح، و لما كان أغلب هؤلاء ليس لهم خبرات عسكرية ذات دلالة و لا يمتلكون الأسلحة التفوا حول المنشقين و هكذا بدأت تتشكل وحدات مسلحة في الداخل، أطلق أغلبها على نفسه اسم الجيش السوري الحر، مع أن اللبنات الأولى التي شكلت ما يسمى بالجيش الحر كانت من الضباط المنشقين، فإن هؤلاء يشكلون الآن قلة قليلة منه. فأغلب أعضائه الآن هم من المدنيين، الذين انضموا له لاحقاً. و يشكل هؤلاء الأخيرون تقريباً 80%-90% من عناصر الجيش الحر. و الحال إن هؤلاء المدنيين هم  من الأبناء المحليين للمناطق المتواجدين فيها ، و هم من طبقات مختلفة في المجتمع، فبعضهم أطباء و مهندسين و بعضهم طلاب جامعات و آخرون من مهن مختلفة أخرى، و هم مقتنعون كلياً بالسبب الذي من أجله حملوا السلاح و هو حماية أهلهم من الأمن و الشبيحة من التفتيش و الإعتقال التعسفيين، و أيضاً حماية المظاهرات السلمية. هذا لا يعني أن بعضهم لا يتصرف بتصرفات غير مسؤولة أو طائشة.

هكذا تكاثرت وحدات الجيش الحر إلى أكثر من أربعين وحدة ، ذات مرجعيات سياسية و فكرية متنوعة، و غالبيتها ليس له ارتباط ببعضها البعض، إذ ليس لها هيكلية تنظيمية واحدة و لا تراتبية واحدة. طبعاً هذا التطور  كان طبيعياً و مفهوماً من الناحية العلمية التاريخية، و ذلك للأسباب التالية:
•                    عنف النظام المفرط.
•                    إستخدام النظام لعصابات الشبيحة.
•                    تسليح النظام للمدنيين الموالين له.
•                    غياب المناطق الآمنة التي يمكن أن يلجأ لها المنشقون.
•                    غياب القيادة السياسية الموجهة للثورة.
•                    غياب الحل السياسي للأزمة السورية، بما فيها عجز المجتمع الدولي عن تبني سياسة واضحة تجاه القضية السورية.

إذاً لم يكن نشوء الجيش الحر إلا ظاهرة طبيعية في تطور الثورة السورية، تفاعل في صيرورته و تشكله مع العوامل آنفة الذكر. و على الرغم من تفتت وحداته، فإنه سيكون عاملاً مهماً في حسم المعركة مع النظام ،مع أن هذا التفتت سيشكل صعوبة جدية أمام تشكيله لجيش وطني واحد في المستقبل.

الاثنين، 10 سبتمبر 2012

موقف لا كما يريده أغلب السوريين

رتب صديق لي اتصالاً بيني و بين شخص أمريكي ذي أصول سورية، وكان هذا الترتيب بناءً على طلب الشخص الأمريكي-السوري، إذ إن هذا الأخير يريد أن يفتح قنوات تواصل مع المنبر الديمقراطي السوري، ووقع الخيار علي من باقي شخصيات المنبر لأنني أعيش في الشمال الأمريكي، و أعرف عاداته و تقاليده. هكذا جرت محادثة بيني و بين هذا الشخص استمرت أكثر من ساعتين، تكلم فيها هو 90% من الوقت، و كنت في معظمها مستمعاً جيداً بلا مقاطعة.

ابتدأ محدثي بوصف مسيرة العلاقة بين الإدارة الأمريكية و المعارضة السورية منذ بدء الثورة السورية. فتكلم أولاً عن اللقاء الذي جمع عدد من الناشطين السوريين - و من بينهم رضوان زيادة و مرح بقاعي و محمد العبدالله- مع وزيرة الخارجية الأمريكية في أوائل شهر آب من السنة الماضية، و الذي دام دقائق، و أحست كلنتون في نهايته -بحسب محدثي- أنه حديث طرشان، و خرجت بانطباعاً بأن هؤلاء ليسوا إلا سذج سياسياً كل همهم التخلص من النظام السوري بأي ثمن عن طريق توريط الولايات المتحدة فيه دون حسبانٍ للعواقب حتى لو كانت تفتيت البلد. هكذا نفضت الإدارة الأمريكية يديها من المعارضين السوريين المقيمين على أرضها، و توجهت إلى فتح قناة اتصال مع مع الأكاديمي الليبرالي المعارض الدكتور برهان غليون، و لكن استجابة هذا الأكاديمي الساكن في مدينة النور للرسائل الأمريكية لم تكن بالمشجعة، و كان هذا مفاجئاً للإدارة الأمريكية. ثم ازدادت مفاجأة الأمريكيين عندما قبل الدكتور برهان بترأس مجلسٍ يشكل الإسلامانيون فيه أكثر من 60% من الأعضاء.

مع ذلك أعطت الإدارة الأمريكية -أيضاً بحسب محدثي- الفرصة للمجلس الوطني السوري، و لكن فشل المجلس بتنظيم ذاته و انعدام الشفافية في عمله و صراعاته الداخلية و عدم فهمه لطبيعة العلاقات الدولية جعله يفقد رصيده الدولي و خصوصاً لدى الإدارة الأمريكية، و إنتهى الأمر بوصف مسؤول أمريكي لأعضائه بأنهم "يتقاتلون اكثر مما يعملون ولا ينجزون اي شيء".

عندها سألت محاوري عن رؤية الإدارة الأمريكية لآلية حل القضية السورية، فأجاب أن هناك تيارين يتنازعان على كيفية التعامل مع الملف السوري. التيار الأول هو تيار مستشاري وزارة الخارجية الآتون من مراكز الدراسات اليمينية النزعة كمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، و هؤلاء يدفعون من أجل عمل عسكري في سوريا، بهدف نزع كل وجود روسي و إيراني في سوريا. أما التيار الثاني، فهو تيار الرئيس و مستشاريه ووزيرة الخارجية نفسها، وهؤلاء يرغبون بحل سياسي للقضية السورية، و ذلك بسبب خشيتهم من تفكك سوريا، واضعين نصب أعينهم ما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي له. 

 ثم أردف أنه من مناصري التيار الثاني، و يعتقد أنه لو وضعت الإدارة الأمريكية كل ثقلها في الملف السوري لدفعت نظام الأسد للرحيل بدون عمل عسكري. و هنا سألت محدثي متعجباً "إذاً ماذا تنتظر الإدارة الأمريكية ؟!" أجاب محدثي إن الإدارة الأمريكية تخشى الفوضى، و هي تنتظر المعارضة السورية لتقوم بالواجب الذي يقع على عاتقها. هنا قاطعته، وسألته مستغرباً "و ما هو هذا الواجب؟!"، فأجاب:
أولاً، وضع تصور للمرحلة الانتقالية أوسع مما قدم في مؤتمر القاهرة، بما فيها تصوراً عن الهيئات التنفيذية و التشريعية و القضائية الضرورية في كل مرحلة من مراحل الانتقال نحو الدولة الديمقراطية المنشودة، و أيضاً وضع تصورات من أجل إحلال الأمن و المصالحة الوطنية و إعادة البناء بعد رحيل النظام.
و ثانياً، تشكيل حاضنة سياسية مقبولة شعبياً و لديها الكفاءة لتأخذ على عاتقها هذا المشروع. لهذا فإن هذه الحاضنة يجب أن تمثل جيداً مكونات الشعب السوري، و التي تشكل المعارضة المنظمة ( بما فيها المجلس الوطني و هيئة التنسيق) فقط 30% منها. ال 70% الباقية هي بقية فئات الشعب السوري من ضباط الجيش الحر و ضباط الجيش النظامي الغير متورطين بجرائم النظام و شباب و سوريين معارضين مستقلين، و برأي بعض الشخصيات الأمريكية فإن هؤلاء الأخيرون هم الأقدر على قيادة المرحلة الانتقالية لأن فيهم طاقات جيدة لم تفسد كما فسدت المعارضة المنظمة من جراء لهاثها وراء السلطة و المال.

عندها عقبت قائلاً: "و هل يعقل أن تترك الولايات الأمريكية الوضع في سوريا يتدهور على هذا النحو --مع أكثر من مئة قتيل و دمار كبير كل يوم- و هي تنتظر معارضة عقيمة؟!" فرد محدثي قائلاً: "الإدارة الأمريكية مستعدة للمساعدة على ترحيل الأسد، و لكنها لا تريد أن ترث فوضى شبيهة بتلك التي شهدتها في العراق بعد رحيل صدام، و هي واثقة أنه لدى السوريون الإمكانية لتجنب هذه الفوضى لو امتلكوا تمثيلاً سياسياً جاداً يضع كل طاقاته و طاقات الشعب في خدمة هذا الهدف، و هي تريد من السوريين أنفسهم أن يجدوا هذا التمثيل". فقلت لمحدثي: "هل يمكنني أصف هذا التنصل الأمريكي باللاموقف؟!" فقال لي: "يمكنك إذا شئت! و لكنني أنا شخصياً أصفه بأنه موقف لا كما يريده أغلب السوريين."

و هنا تساءلت في نفسي: " إذاً، ماذا يريد هذا الشخص من المنبر الديمقراطي السوري؟!"

عوائق نجاح مؤتمرات المعارضة السورية

بتاريخ 4 أيار من هذه السنة و قبل اجتماع المعارضة الذي كان مزمعاً عقده في مقر الجامعة العربية في منتصف أيار كتبت إلى بعض أعضاء اللجنة السياسية في المنبر الديمقراطي السوري قائلاً:

السادة الأعضاء:

إنني أخشى أن ينتهي اجتماع القاهرة بالفشل كما انتهت سابقاته. إذ لا أعرف ما يجري من تحضيرات لهذا الغرض، فلانجاح أي مؤتمر للمعارضة السورية يلزم الكثير من التحضير، و هذه التحضيرات يجب أن تتم على صعيد الأشخاص أولاً.

القضية السورية معقدة من الناحية الموضوعية لأسباب كلنا نعرفها، و لكن ما يجعلها شديدة المناعة لأي حل هو العوامل الشخصية، إن كان على صعيد شخصيات المعارضة ذاتها أو صعيد اللاعبين العالميين. و الحال أن انعدام الثقة بين شخصيات المعارضة كان العامل الأكبر في نشوء عدم الثقة بين اللاعبين الدوليين. فهناك نقص الفهم المتبادل و التفهم، و هناك نقص الثقة و الشك و الريبة، كل هذه عوامل مهمة لأنها تؤثر سلباً على المعارضة و الثورة و موقف المجتمع الدولي من هذه الثورة، و لكن للأسف لم يصرف أي أحد أي جهد لازالة هذه العوائق، بل بالأحرى كثيرون يعملون على تثبيتها و تقويتها عن قصد أو غير قصد.

إنني شخصياً أعتبر أن حل هذه المعضلة هو البداية لتنظيم أمور المعارضة و التي من غيرها لن ينجح أي مؤتمر للمعارضة. لقد أدركت ذلك مبكراً -منذ الأشهر الأولى للثورة- من خلال خبرتي مع المعارضين في الشمال الأمريكي، فكلما كنت أحدثهم عن ضرورة التقارب مع الدكتور برهان غليون لأنهم يشكل لهم مفتاح اليسار و الداخل السوريين، كانوا يتهربون -ليس فقط من التحدث مع الدكتور برهان، بل أيضا مني- و يلجؤون لعقد إجتماعات يجتمع بها كل من هب و دب، و نعرف كيف إنتهت الأمور، أخذوا - مع أصدقائهم- الأستاذ برهان من اليسار و الداخل، و لم يتقربوا لا من اليسار و لا من الداخل، بل جعلوا الإستاذ برهان حجر عثرة أمام هذا التقارب. لهذا كنت قد كتبت -بشكل غير مباشر- للأستاذ برهان عن موضوع الشك و الريبة بين مختلف شخصيات المعارضة في شهر تموز الماضي. و لكنه لم يفهم علي في ذلك الوقت، فأجابني بما هو معناه "ما هذا الكلام؟!"، و للأسف هو الآن أدخل نفسه في لعبة الشك و الريبة هذه، لا بل أصبح عاملاً أساسياً فيها. أضع لكم رابطي النص الذي كتبته له في شهر تموز الماضي بالفرنسية و الإنكليزية، إذ إنني كتبته بالأصل بالفرنسية، ثم ترجمته للإنكليزية.
http://haytham-khoury.blogspot.ca/2011/07/lopposition-syrienne-de-labsurdite-au.html
http://haytham-khoury2.blogspot.ca/2011/07/syrian-opposition-from-absurdity-to.html

مازلت أعتقد أن العامل الشخصي و النفسي هو عائق مهم لتجتمع المعارضة حول مشروع واحد و فكر واحد، و هو أيضاً منبع لتعقيد القضية السورية على الصعيدين العربي و الدولي، إذ نقلت أطراف المعارضة هذه الشكوك إلى حلفائهم الإقليميين و العالميين.

النقطة الثانية التي ستقف عائقاً أمام نجاح مؤتمر القاهرة ستكون "اعتبار المجلس لنفسه أنه الممثل الشرعي و الوحيد للشعب السوري". بحسب زعم المجلس فإنه سعى إلى هذه الصفة لينزع الشرعية الدولية عن نظام الأسد، و هو لجأ إلى ذلك مستحضراً النموذج الليبي، على أمل أن يؤدي ذلك إلى التدخل العسكري الغربي في سوريا. و لكن ما غفل عنه المجلس أن الغرب لا يتدخل وفق أي أجندة غير أجندته، و هو ينزع الشرعية عمن يشاء في الوقت الذي يشاء، و يتدخل في الوقت الذي يشاء. هكذا مانع الغرب طلب المجلس في البداية لعلمه و قناعته أن النتائج العكسية لذلك هي أكثر من فوائده، و لكن تحت الحاح المجلس أعطاه لقب "ممثلاً شرعياً" للشعب السوري و ليس "الممثل الشرعي". المشكلة هي أن طلب المجلس هذا أبعده أكثر فأكثر عن الشعب السوري الذي كان يرغب أن يحافظ المجلس على الشرعية الشعبية التي أعطاه إياها في شهر تشرين أول الماضي، لا أن يصبح السعي للشرعية الدولية هاجسه الوحيد. أيضاً أيضاً خلق سعي المجلس هذا مزيداَ من الشك بين المجلس و بقية شخصيات و فصائل المعارضة التي رأت أنه موجه ضدها، و هي محقة عملياً في ذلك، و ربما فعل المجلس ذلك عن قصد أو عن غير قصد. هكذا إنتهى المجلس مع ادعاء لا يوافق واقعه، أبو بالأحرى مع كذبة صدقها هو أولاً و يريد لكل المعارضة و كل المجتمع الدولي أن يصدقوها. و لكن المشكلة الأكبر هي أن هذه الكذبة أصبحت تشكل عائقاً أمام التقاء المجلس مع بقية فرق المعارضة و الجلوس معها على طاولة واحدة و التنسيق معها، مما إنعكس سلباً على الواقع السياسي و الميداني للثورة.

النقطة الثالثة التي ستقف عائقاً أمام اجتماع القاهرة هي عدم ادراك بعض فصائل المعارضة لعلاقة الأخلاق بالسياسة. أرسطو في كتابه "السياسة" ركز أن السياسة يجب أن تكون أخلاقية في غاياتها و وسائلها، و لكن اليونان فرقوا بين نوعين من أنواع الأخلاق، الأول (Morality) و الثاني (Ethics)، فبينما يقوم الأول على تحديد ما هو مسموح و ما هو ممنوع، أي بين ما هو مقدس و ما هو رجس، فإن الثاني يضع أن الغاية من أي فعل إنساني هي خير الإنسان عينه، و يجب أن يتعامل الإنسان مع ظروف الحياة المتغيرة من هذا المنطلق. لا شك أن الطريق الأول للأخلاق سهل في ظاهره، و لكنه بالحقيقة مخيب في نتائجه، أما الطريق الثاني فهو صعب في آليته، و لكن يأتي بأفضل النتائج الممكنة. و لكن إذا ما حاولنا أن ننظر إلى فصائل المعارضة السورية و أي المناهج الأخلاقية تتبع، لوجدنا أن "هيئة التنسيق" بجمودها في لاءاتها الثلاث و أيضاً "تيار بناء الدولة" برفضه التوقيع على بيان البحر الميت يتبعان النظرة الأولى في الأخلاق، بينما يتبع المجلس الوطني عموماً النظرة الثانية و لكن وفق نظرة قاصرة تهمل تعقد الواقع، و تتغاضى عن أخلاقية الوسائل في بعض الأوقات، هكذا تبتعد أفعاله عن الأخلاق في بعض الأحيان. إن هذا الخلاف في المنظور للأخلاق السياسية يقف عائقاً أمام تبني المعارضة لإستراتيجية واحدة لاسقاط النظام، و بالتالي يؤخر هذا الاسقاط و تمنع الإبتداء بالإتفاق على صورة سوريا الجديدة.و الأخطر من هذا أنه بدلاً من أن يتفهم كل طرف طريقة تفكير الطرف الآخر، فإن كل طرف يعير الطرف الآخر على طريقة تفكيره، و يزاود عليه في الوطنية.

هكذا ستقف أمام اتفاق المعارضة على رؤية واحدة لاسقاط النظام عوائق متعددة بعضها شخصية و أخرى عملية و ثالثة فكرية. إن ادراك فصائل المعارضة لهذه العوائق و رغبتها الجادة للتخفيف من نتائجها هي السبيل الوحيد لانجاح أي مؤتمر من مؤتمرات المعارضة.

هنا انتهت رسالتي، و كان معي حق فيها، فاجتماع القاهرة ذاك فشل قبل انعقاده، إذ إعتذرت عن حضوره عدة فصائل من المعارضة لأسباب من النوع الشخصي التي ذكرت في رسالتي تلك. في المحاولة المطروحة هذا الشهر للم شمل المعارضة السورية حول رؤية واحدة، إرتأت اللجنة المنظمة هذه المرة أن تعقد اجتماعاً تمهيدياً غير رسمي اليوم في استنبول أولاً، قبل عقد الرسمي في القاهرة آخر الشهر. لا شك أن هذا حسن، لربما سمح هذا الاجتماع التمهيدي الاستشاري غير الرسمي بخلق جو من الثقة بين أطراف المعارضة دون أن يكون هناك ضغط للوصول لاتفاق نهائي، و لربما أيضاً فتح الباب أمام فصائل المعارضة لمزيد من المشاورات قبل عقد الاجتماع الرسمي في القاهرة بعد اسبوعين.

مقاربة تاريخية لمشاعر الإضطهاد السريانية




كتب صديقي الأستاذ سليمان يوسف على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي يقول: " من طبائع وسلوكيات الحكم الاستعماري سعيه الدائم الى محو ثقافة وحضارة وطمس تاريخ سكان البلد الواقع تحت الاحتلال (اصحاب الأرض). ليظهر المحتل وكأنه هو أول من سكن هذه الأرض وصاحبها. حقيقة هذا ما فعله العرب المسلمين مع السكان الأوائل لسوريا وبلاد الشام والعراق-السريان الآشوريين والآراميين- منذ غزوهم وحكمهم لها. فمن يقرأ كتب ومناهج التاريخ التي تعلم في المدارس السورية، حيث هناك تغييب وطمس تام للتاريخ والثقافة والحضارة السريانية (الآشورية)، تتكون لديه فكرة بأن تاريخ سوريا والمنطقة لم يبدأ إلا مع العرب المسلمين، في حين أن هم آخر من جاء الى المنطقة.من هنا أقول:بأن الحكم العربي الاسلامي لسوريا ليس بحكم وطني سوري وإنما هو "حكم استعماري" وسوريا هي اشبه بـ"مستعمرة عربية".

و لكنني لما وجدت في هذا القول تجنٍ على العرب المسلمين، أخذت على عاتقي مهمة الرد عليه، فكتبت:

صديقي العزيز:

التاريخ في حركة دائمة، و هناك حضارات تزدهر و أخرى تذبل. أما التي تزدهر، فتفعل ذلك عبر قوتها الثقافية و الإقتصادية فتفرض نفسها على سيرورة التاريخ، و يتبعها الآخرون و يتقلدون بها. و أما التي تذبل، فإنها تضمحل إما لأنها لم تُجارِ عصرها بعلمه و ثقافته أو لأنها سُحقت تحت قوة السلاح بفعل القمع و الإضطهاد. هكذا يفرض الأقوياء مآلات التاريخ بهذه القوة أو تلك.

إستوطن الأراميون الداخل السوري بعد هجرة طبيعية من الجنوب إلى الشمال، فإستقروا هناك من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، و بنوا حضارة هامة كان لها تأثير كبير على محيطها، هكذا أصبحت اللغة و الثقافة الآراميتين هي الطاغية في الهلال الخصيب لأكثر من ألفية خلت، فأضحت اللغة التي تتكلم بها شعوب ذات تاريخ عريق كالشعب البابلي-الأشوري و الشعب الأكادي و طبعاً بالإضافة للشعب الآرامي، و إستمر هذا النفوذ حتى مجئ الهلينيون في القرن الرابع قبل الميلاد.

عندما إحتل الهلينيون سوريا (عام 334 ق.م) فرضوا هيمنتهم الثقافية على حساب الثقافة الآرامية، فأصبحت اليونانية شائعة في المدن كلغة للعلم و الإقتصاد، بينما بقيت الآرامية -أو السريانية كما أطلق عليها الهلينيون أنفسهم- شائعة في الأرياف. ثم جاء الرومان (عام 64 ق.م) فطوعوا سوريا بالسيف، و عمموا اللغة و الثقافة اليونانيتين، و إعتبروا كل من هو غير روماني مواطناً من الدرجة الثانية. في بداية الحكم الروماني لسوريا، إضطهد الرومانُ المسيحيين -و من بينهم السريان- فذبحوا منهم الكثيرين، إلى أن جعل قسطنطين المسيحية ديانة قانونية عام 313 م، و من ثمّ أصبحت الدين الرسمي للدولة الرومانية عام 380 م. و لكن في عام 451 م و على إثر مجمع خلقدونية، إعتبر الرومانُ المسيحيون المسيحيين السريانَ هراطقة فأضطهدوهم و قتلوا الكثيرون منهم إلى أن جاء العرب.

إستولى العرب على العراق و سوريا عام 636م بناء على رغبة نبيهم لتحرير العرب المسيحيين -المناذرة و الغساسنة- من حكمي الفرس و الروم على التوالي، و لهذا أسموه فتحاً. و نبعت رغبة التحرير هذه من علاقات النبي الجيدة التي أقامها مع العرب المسيحيين هؤلاء أثناء عمله في التجارة، و يجب ألا ننسى في هذا المجال تأثير الراهب بحيرة عليه.
عندما فتح العرب سوريا و العراق، عاملوا سكان هذه البلدان بشكل حسن، و مع أن المعاملة إختلفت بحسب الخليفة، لكنها ظلت نسبياً جيدة في كل الأحوال. كان للمسيحيين بشكل عام مكانة جيدة أثناء الحكمين الأموي و العباسي. هكذا كان وزراء الخزانة و الديوان أثناء الحكم الأموي دائماً من المسيحيين- كمنصور بن سرجون المعروف بالقديس يوحنا الدمشقي في الكنيسة الرومية- فشكل المسيحيون عماد النهضة الإدارية للدولة الأموي. و عندما أراد العباسيون إطلاق النهضة العلمية في دولتهم لجؤوا إلى المسيحيين السريان لترجمة التراث اليوناني، و كان من بين هؤلاء المترجمين ثابت بن قرة و حنين بن اسحق، و كان المأمون قد عين هذا الأخير مسؤولاً عن بيت الحكمة و دار الترجمة، و كان يدفع له ذهباَ بوزن الكتب التي يترجم.

خلال العهدين الأموي و العباسي لم يُجبر المسيحيون على ترك دينهم، هكذا بقيت نسبة المسيحيين في سوريا أكثر من 40% حتى منتصف القرن التاسع عشر، أي إلى حين المجازر الشهيرة التي إقترفها العثمانيون بحقهم. كما لم يجبر الأمويون و العباسيون السكان الغير ناطقين بالعربية على التخلي عن لغاتهم الأصلية -اليونانية و الأرامية- و لكن تراجعت هذه اللغات تدريجياً نتيجة إزدياد النفوذ الثقافي و الإقتصادي العربي.

لم يتعرض المسيحيون من كل الطوائف في سوريا إلى أي إضطهاد أو تمييز ديني واضح إلى أن جاء المماليك و من بعدهم العثمانيين. و الحال، إن هذا الإضطهاد كان عاماً على كل السوريين و لكن بالأخص على المجموعات غير السنية كالعلويين و الدوروز و الإسماعليين و اليهود و المسيحيين. هكذا فالإضطهاد و التمييز التي عانت منه الأقليات في هاتين الفترتين لم يكن دينياً أو طائفياً فقط بل كان أولاً عرقياً سياسياً، إذ كان المماليك و العثمانيين من جذور تركية، و ليثبتوا أقدامهم في هذه البلاد و يسيطروا عليها لجؤوا إلى نظام الإقطاع، فوهبوا الأرض لقلة قليلة غالبيتها سنية المعتقد، و بقيت الأكثرية تعمل كالعبيد، هكذا تعرض العرب من أهل السنة للإضطهاد، و لكن كان إضطهاد الأقليات أكثر بكثير، هذا ما أدى بالأقليات للتمرد بين الفينة و الأخرى و تعرضهم بالنتيجة للمذابح.

و أخيراً جاءت الحركات القومية العروبية ذات النزعات الشوفينية، و كانت بمجملها علمانية غير إسلامية. أما من حيث ممارستها السياسية فقد كانت بشكل عام غير صادقة في شعاراتها العروبية، كما أنها عانت من عقدة الإرتياب و الخوف من الآخر. هكذا نظرت بعين الريبة إلى كل ما هو غير عربي، و من بينها الأقليات غير العربية التي سكنت هذه الأرض منذ قديم الزمن، فحاولت قمع هذه الأقليات و إمحاء لغتها و ثقافتها و تراثها، و تعريبها إذا أمكن ، و كان هذا الفصل الأخير من قمع الأقليات العرقية في سوريا.

أنا أوافق صديقي سليمان أن الثقافة الآرامية (السريانية) إندثرت في موطنها الأصلي سوريا، و لكن لعبت عوامل عدة في إندثارها، بعضها كان تطوراً تاريخياً طبيعياً، و بعضها كان إمحاء مقصود، و لكن لم يكن العرب المسلمون الفاعل الأهم لهذا الإمحاء، بل لعب الرومان و من بعدهم المماليك و العثمانيين -و أيضاً الحركات القومية العروبية- الدور الأكبر في هذا القضاء. القضية المهمة الآن دعونا نفكر كيف سنحفظ الباقي من التراث السرياني، و نعيد له مكانته التي يستحق. فهل نريد لهذا الأمر ضمانات دستورية؟ هل نحتاج لمؤسسات مجتمع مدني تعمل إنماء وعي المجتمع بأهمية هذا التراث؟ هل يلزمنا مراكز دراسات مختصة في هذا المجال؟ و أخيراً ما هو دور الآشوريين أنفسهم في هذا الإحياء؟

عجيبة هي المعارضة السورية




عجيبة هي المعارضة السورية في أحوالها، فقصصها لا تشبه إلا قصص الميلودراما في المسلسلات المصرية. فكلما ظننا أن الدم المسفوك على تراب الوطن سيجعلها تنضج و تكبر، إذ تفاجئنا بالعثرات المرة، دافعة إيانا إلى الإحباط و الحزن و الألم و الغثيان. و لم يكن مؤتمر المعارضة في إسطنبول البارحة إلا حلقة من حلقات هذا المسلسل المضني، إذ إن هذا المؤتمر فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق هدفه المرجو -أو بالأحرى المعلن- و الذي هو "توحيد رؤية المعارضة". و الحال، إن هذا الفشل كان مكتوباً عليه من قبل بدء بالمؤتمر و ذلك للأسباب التالية:

أولاً، لم يكن هناك تحضيراً جيداً للمؤتمر. لنجاح أي مؤتمر يجب أن يكون هناك مشاورات مطولة بين الفصائل المشتركة قبل المجئ إلى المؤتمر للتوافق على جدول الأعمال و البيان النهائي. من الواضح أن هذا لم يتم، فالجهة التي بادرت إليه -و هي المجلس الوطني- جهزت جدول الأعمال و البيان الختامي و لم يكن على الحاضرين إلا الإلتزام و التوقيع. و هي لم تتعب نفسها لا بمشاورات و لا بإتصالات، و كأن المدعويين ليسوا شركاء في بناء الوطن، بل مجرد حاشية و مصفقين للزعيم البطل الأوحد.

ثانياً، بينما إعتبر المجلس الوطني نفسه راعياً للمؤتمر، تم توجيه الدعوات إلى أطياف المعارضة الأخرة ليس كفصائل بل كأشخاص، و هذا بحد ذاته نكران -أو بالحد الأدنى تجاهل- لوجود هذه الفصائل. مما يعني أن المجلس الوطني كرّس نفسه حزباً قائداً أوحد جديد، مناقضاً بذلك البيان الختامي للمؤتمر عينه الذي أقر بالتعددية، و هذا مثال فاضح على الفصام بين المبادئ المعلنة و السياسات المطبقة. و الحال، إن توحيد المعارضة المتوخى لم يكن إلا إعلان البيعة للحزب الواحد القائد الجديد و ذلك عبر تمييع فصائل المعارضة الأخرى و تذويبها تدريجياً. و هذا ما يدعوننا إلى الظن أن إعلان البيعة هذا و تذويب الفصائل تلك كانا الهدف الحقيقي -المضمر- من المؤتمر.

ثالثاً، إن الدعوات لحضور المؤتمر جاءت من قبل تركيا و قطر، و لا أعلم ما علاقة تركيا و قطر بالأمور الداخلية للمعارضة السورية! هل أصبحتا الوليتين على شؤون هذه المعارضة و بالتالي الوليتين على شؤون سوريا القادمة؟! و من ولاهما على هذا الأمر؟! هل المجلس الوطني فعل ذلك، أم هما اللتان أقحمتا نفسيهما؟! و الحال، إنه في كلتي الحالتين لا عُذر للمجلس الوطني. ألا يعلم المجلس الوطني أن السوريين سياديون بالطبيعة، و أنهم يعتبرون أن أي تدخل خارجي في شؤونهم جريمة كبرى؟! أظن أن المجلس الوطني أعماه الكبرياء عن رؤوية الكثير من المسلمات، و أنا واثق أنه سيُصعق بكثير من المفاجآت التي يخبأها له الشعب السوري.

رابعاً، كان أحد أهداف المؤتمر إرضاء العالم الخارجي و ذلك عبر إظهار المعارضة موحدة حول رؤية ناصعة لسوريا الجديدة -الشئ الذي طالما طالبت بها السيدة كلينتون. و لكن المؤتمر فشل في تحقيق ذلك، فالرؤية لم تكن ناصعة، إذ إن البيان الختامي أتى إنشائياً يخلو من الخطوات العملية، ثم إنه لم يكن إلا تكراراً للبيانات الختامية لمؤتمرات المعارضة السابقة. و المعارضة ظهرت مشتتة كما لم تبدو من قبل، فكثيرون أعتذروا عن الحضور، و آخرون إنسحبوا و من بينهم المجلس الوطني الكردي. كل هذا ليدل مرة أخرى على عدم فهم أطياف المعارضة السورية -و بالتحديد المجلس الوطني- لحساسيات بعضها البعض و بالأخص لخصوصية القضية الكردية، و ليظهر مرة أخرى أن هناك بوناً شاسعاً بين ما ينادي به و ما يفعله.

لكل هذا جاء مؤتمر إسطنبول الأخير هزيلاً باهتاً، و لهذا لم تطرب له أفئدة السوريين، و لم تهلل له أقلام الإعلاميين، و لا أظنه أقنع اللاعبين العالميين. و ها نحن ننتظر حلقة أخرى من هذا المسلسل المضني.

كوفي عنان، إنتبه!

بعد أن نشرت مقالة حللت فيها شخصية بشار على صفحات إحدى المجلات الإلكترونية، بعثت لي سيدة أعجمية مهتمة بالقضية السورية بالسؤال التالي: "الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وصف بشار الأسد بأنه كذاب، فلماذا يكذب بشار؟" . فبعثت لها جواباً قلت فيه: "في الحقيقة إن بشار يكذب كثيراً هذه الأيام، و لكن كذبه المنهجي الذي نراه الآن ليس قديماً جداً. على الأرجح، إنه إبتدأ يكذب بشكل متواتر عندما أصبح رئيساً، غير أن كذبه إستفحل كثيراً بعد بدأ الثورة. بشار يكذب لأن هم الرئاسة هو فوق طاقته، هو لا يستطيع تحمل مسؤولياتها. إنه ضعيف سطحي متردد متململ، كما أنه غير قادر على فهم الناس و ظروف الحياة من حوله، و هو لا يعرف ضرورات الأمور و متطلباتها. هكذا إذا جاءه أحد ما بطلب أو بفكرة، فهو يعبر عن فرحه و إستحسانه لهذا الطلب أو تلك الفكرة، و هو غالباً ما يكون صادق النوايا في تلك اللحظة، و لكن عندما يأتي أوان الفعل هو غالباً لا يفعل، و ذلك لأنه مشتت الفكر، و إن إبتدأ بالفعل فإنه غالباً يتوقف عنه في بدايته لأنه لا يقدر صعوبته حقاً. لهذا بشار يعد و لا يفي، و الأنكى من هذا أنه عندما يحاول إخفاء إخفاقه المشين الأول، فإنه يلجأ للتباله و المخاتلة و اللف و الدوران. هكذا يظهر للآخرين على أنه كذاب، لا بل هو أشدهم و أخطرهم كذباً.

يزور كوفي عنان يوم غد بلدنا الحبيب سوريا، و ذلك في إطار مساعيه لحل الأزمة السورية. و الحال، إنه في ظل الإحتدام الميداني و القحط السياسي على الساحة السورية، جاء تعيين كوفي عنان كمبعوث مشترك للأمم المتحدة و الجامعة العربية خاصٍ بالقضية السورية كبصيص ضوء في دلجة الليل. فقلة قليلة من الديبلوماسيين في العالم لهم خبرة كوفي عنان. إذ إنه تقلّد مناصب عدة في الأمم المتحدة من عام 1987 إلى وقت تقاعده عام 2006، و كان من أهمها منصب الأمين العام بين عامي 1996-2006. خلال خدمته في الأمم المتحدة عُرف عنه جلده و ثباته و أيضاٌ أناقته في التصرف و هدوء صوته، و لهذه الصفات أختير كأمين عام خلفاً لبطرس بطرس غالي. خلال توليه لمنصب الأمين حقق كثيراً من الإنجازات إبتداءً من إصلاحه لأجهزة الأمم المتحدة و إنتهاء بإقامة الصندوق العالمي للإيدز و الصحة الذي من أجله حصل على جائزة نوبل. و لكن أيضاً من أهم إنجازاته -و التي قد يكون لها أثرها على كيفية تناوله للقضية السورية- مساهمته بشكل فعال في تطوير رؤية الأمم المتحدة لمسؤولية المجتمع الدولي عن حماية المدنيين عندما تفشل حكوماتهم في القيام بهذا.

أمر آخر يجعل من كوفي عنان شخصاً ذو أفضلية في إستلامه الملف السوري كان موقفه من الغزو الأمريكي للعراق. ففي أثناء التحضير للغزو العراق عام 2003 طالب كوفي عنان زعماء بريطانيا و الولايات المتحدة ألا يذهبوا للحرب دون موافقة الأمم المتحدة. و عندما سئل في عام 2004 عن شرعية الغزو الأمريكي للعراق، أجاب بأنه لا يتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة. و في آخر خطاب له كأمين عام ألقاه في مكتبة ترومان في ولاية ميزوري عام 2006، ناشد عنان الولايات المتحدة بالتخلي عن الإنفرادية في سياستها و العودة إلى سياسة التعددية و الإجماع التي -على حد قوله- طالما دافع عنهما الرئيس ترومان. كل هذا يجعله شخصية مستساغة من قبل الزعماء الروس، و بالأخص يجعلهم يطمئنون أنه ليس آتٍ ليمرر أجندة أمريكية خفية.

و لكن ما يؤخذ على كوفي عنان هو سذاجته، فهو يعتقد أن كل الناس يستجيبون للكلام الهادئ و الإقناع، كما أنه يصدق كل ما يقال إليه. هكذا فعل في عام 1998 عندما إعتقد أن صدام حسين كان صادقاً بوعده إياه أنه سيعيد المفتشين، و لكن الذي فعله صدام حسين أنه أعاد المفتشين لعدة أسابيع ثم طردهم ثانية. و هكذا فعل عندما وثق بقول حسن البشير عام 2004 أنه لن يبعث الجنجويد إلى دارفور ثانية، و إذ بالبشير يمتنع لوهلة ثم يرسلهم ثانية. لا أعرف إذا كانت سوء حظ كوفي عنان صفة لازمة لتعاملاته فقط مع الحكام العرب ، إذ إن وساطته في كينيا عام 2008 نجحت على أتم وجه.

لذلك أيها السيد الجليل أنصحك بأن تتذكر وصف لاحقكك -بان كي مون- لبشار بأنه كذاب. و سوف أضيف عليه و أقول أنه نصاب و محتال. تذكر يا أيها الموقر مقابلته مع باربرا والترز، فعندما سألته عن المطرب الشهير الذي أُقتلعت حنجرته، أجاب أنه لم يسمع عنه. و الحال أن بشار كان بعرف نفسه لا يكذب، إذ إن إبراهيم القاشوش لم يكن مطرباً، بل كان منشداً في المظاهرات، و هو لم يكن مشهوراً، إذ إن أغلب المنحبكجية لم يسمعوا عنه. كذلك عندما سألته عن الأطفال الذين أُقتلعت أظافرهم، أنكر وجودهم. و هو بمنظور نفسه لم يكذب، لأن من تدعوهم باربرا والترز أطفالاً لم يكونوا أطفالاً بل مراهقون. لذلك فإني أنصحك أيها الموقر إذا طلبت من بشار أن يوقف النار، فعليك أن تحدد ماذا تعني له بكلمة إيقاف، هل هو لساعة أم لساعتين أم لأكثر؟ و أن توضح ماذا تعني بكلمة نار، فهل تعني بها طلقات القناصات أم الأر بي جي أم مدافع الهاون أم الدبابات أم الصواريخ؟ و إذا طلبت منه أن يسمح بإيصال المساعدات إلى المناطق المنكوبة، فأرجوك أن تقول له عن مصادرها و تواتر و أوقات مجيئها، فبشار إنسان دقيق في كل شئ، و إذا لم تحدد كل هذه الأمور، فهو لن يعرف أيها تقصد. و أيضاً، أنصحك أن تأخذ معك شخصاً ما ليكتب كل ما تتفقون عليه، لأن بشار لا ينظر بعين الجد للكلمات المحكية، إذ أنه يعتبرها مجرد دردشة. و لكن أهم شئ على الإطلاق، لا تنسى بأن تقول له أنه إفتقد شرعيته و عليه الرحيل، و أرجوك أن تشرح له ماذا تعني بكلمة رحيل.

الجمعة، 7 سبتمبر 2012

أزمة المكون السياسي للثورة السورية



منذ أن إبتدأت الثورة السورية في 18 آذار/مارس 2011، أظهر الشعب السوري شجاعة و تصميماً لا يقارنين في وجه آلة القمع و التنكيل و القتل. هذا ليس مجرد كلام خطابي، بل كلام واقعي يؤيده العديد من المراقبين المستقلين. و لقد حدد الشعب الثائر بفطرية واعية و ذكية شعار "حرية و عدالة و كرامة" كعنوان لثورته، و لكن لكي يستطيع الشعب قيادة ثورته إلى غايتها بأقل مقدار ممكن من التضحيات يلزمه قيادة سياسية تصيغ أمنياته و تطلعاته و تقود معركته السياسية.

لم تكن هذه الضرورة خافية عن بعض أوساط المعارضة. هكذا و إبتداءً من 25 آذار/مارس بادرت بعض الشخصيات إلى تشكيل تنظيم إئتلافي يجمع مختلف أحزاب المعارضة، أثمرت هذه الجهود التي إستمرت ثلاثة أشهر عن تشكيل هيئة التنسيق الوطنية في 30 حزيران/يونيو. ضمت هيئة التنسيق عدداً واسعاً -إلى حد ما- من فصائل و شخصيات المعارضة -و لكن أغلبها ذو ميول يسارية- إلا أنها لم تضم كل أطياف المعارضة، إذ غاب عنها تياران مهمان هما إعلان دمشق و حركة الإخوان المسلمين، و أيضاً غاب عنها تمثيل جزء كبير من الشارع السوري ليس يساري الهوى. إشتهرت هيئة التنسيق بلاءاتها الثلاث "لا للطائفية، لا للعنف، لا للتدخل الأجنبي". لم تدرك الهيئة أنها لا يمكنها أن تقيم برناماجاً لثورة قائماً فقط على كلمة "لا". فالثورة عمل إيجابي فاعل، لا بل هو أشدها فاعلية، و فقط بعد رفع شعار الفعل الإيجابي و التغيير، يمكن وضع ضوابط له. هكذا فبينما إتفقت الهيئة بشعارها "لا للطائفية" مع الغالبية العظمى من الشعب السوري، فإنها بشعارها "لا للتدخل الأجنبي" و قفت على نقيض جزء كبير من الشعب الثائر الذي رفع لافتات تؤيد الحظر الجوي و المناطق الآمنة. كما أن تصلبها و مطلقية طرحها لشعار "لا للعنف" جعلها تقف موقفاً عدائياً من الجيش الحر أو هؤلاء الذين رفعوا السلاح للدفاع عن أنفسهم، مما أوسع الهوة بينها و بين الشباب الثائر. و لكن أكثر ما أضر بها في هذا المجال هو تأخرها بطرح شعار إسقاط النظام، فبينما رفع الشعب هذا الشعار إبتدأَ من شهر أيار، لم تلفظه هيئة التنسيق حتى شهر أيلول. هكذا ظهرت هيئة التنسيق ليس فقط غير قادرة على القيام بمهمة الموجه السياسي للحراك الشعبي، بل أيضاً غير قادرة عن فهم إمنيات و طموحات الشعب. كل هذا -بالإضافة للتصلب التنظمي و فردية قياداتها- أدى إلى إنسحاب عدد كبير من مؤسسيها الأوائل منها كميشيل كيلو و عارف دليلة و حبيب عيسى و حازم نهار و برهان غليون.

و بينما كانت تجري المساعي لتشكيل هيئة التنسيق، تم عقد أول مؤتمرين للمعارضة في الخارج، أعني بهما مؤتمري أنطاليا (31 أيار/مايو2- حزيران/يونيو) و بروكسل (5-4 حزيران/يونيو). كلاهما عقدا بحسب زعم منظميهما من أجل تعبئة شعبية للحراك الثوري. هكذا لم ينجم عن كليهما أي صياغة لإطار سياسي للثورة، مع أنني كنت قد بعثت بإقتراح لتشكيل مجلس إنتقالي مكون من خمسة أشخاص إلى مؤتمر إنطاليا.

ثم جاء مؤتمر الإنقاذ الوطني الذي عقد في 16-17 تموز/يوليو، و كان من المقررأن يعقد في دمشق و إسطنبول في آن معاً، و لكن النظام منع الجزء الدمشقي منه بإرتكابه مجزرة في المكان المقرر لحدوثه راح ضحيتها 24 شخصاً. هكذا عقد منه فقط الجزء الإسطنبولي، فغلب عليه الطابع الإسلاماني. وضع منظمو هذا المؤتمر له هدفين: الأول بناء صورة لسورية مابعد الأسد و الثاني تشكيل حكومة ظل. و قد وضع المنظمون هذين الهدفين بناء على إعتقادهم أن سقوط النظام الأسدي كان آنياً، هكذا كان علينا أن نعبّأ المجتمع حول مشروع سوريا الجديدة و نسدّ الفراغ المؤسساتي الناجم عن سقوطه بحكومة ظليلة. ولكن المؤتمر فشل فشلاً ذريعاً، إذ إن فكرة تشكيل حكومة ظّل كانت بعيدة كل البعد حتى عن متطلبات الثورة في ذلك الحين، فالنظام الأسدي لم يكن آني السقوط و المعارضة لم تكن مهيئة لتشكيل أي كيان سياسي يدير عملها وذلك بسبب تشرذمها. هكذا إختتم هذا المؤتمر أعماله بتشكيل لجنة تدعو إلى مؤتمر جديد يضم كل أطياف المعارضة.

و لكن بدل أن تعمل هذه اللجنة على تنظيم مؤتمر جديد يضم كل أطياف المعارضة السياسية، عمل بعض أعضائها على تنظيم مؤتمر جديد في إسطنبول في 20 آب/أغسطس يضم مغتربين معارضين غالبيتهم العظمى قاطنة في الشمال الأمريكي و لم يكن لهم أي باع في العمل السياسي، و ضم إليه مندوبين عن مؤتمري إنطاليا و بروكسل و الكتلة الإسلامانية التي ساهمت بتنظيم مؤتمر الإنقاذ، و كان الهدف من هذا المؤتمر تشكيل مجلس تحت إسم "المجلس الوطني السوري". و لكن إعترض على هذا الموضوع مندوبي مؤتمر إنطاليا و بروكسل و إنسحبوا من هذا المؤتمر، و لما كانوا على علم أن المغتربين الأمريكيين مصممون على تشكيل مجلسهم، شكل هؤلاء مجلساً على عجل في 29 آب/أغسطس مكوناً من أكثر من 150 شخصية دون إستشارة أي من الأعضاء المختارين و و ضعوا على رأسه الدكتور برهان غليون أيضاً دون إستشارته.

قبل الدكتور برهان بالمهمة الموكلة إليه، و كنت واحداً من الذين شجعوه على هذا، لأنني كنت أعلم بما يجري. و لكن الدكتور برهان أدرك أنه لا يمكنه التعامل مع تركيبة المجلس التي فُرضت عليه، لهذا عمد إلى إعادة هيكلة هذا المجلس. لهذا الغرض عُقد مؤتمر الدوحة بين 5-8 أيلول/سبتمبر. دُعي إلى مؤتمر الدوحة كل من هيئة التنسيق و إعلان دمشق و الإخوان المسلمين و كتلة المغتربين التي تنوي إقامة مجلسها الخاص (و كانت من ذلك الحين فصاعداً تسمى بمجموعة إسطنبول). فشل المؤتمر لسببين، الأول لأن البعض ظن خاطئاً أن المؤتمر هو فخ لإجبارهم على القبول بمبادرة الجامعة العربية الأولى، و الثاني لأن مجموعة إسطنبول كانت مصممة على عقد مؤتمرها المزمع عقده في 16 أيلول/سبتمبر لتشكيل مجلسها. و هكذا تم إفشال مؤتمر الدوحة و الإعلان من قبل مجموعة إسطنبول عن "المجلس الوطني السوري"، و ضم في ذلك التاريخ 70 عضواً من الداخل و 70 عضواً من الخارج تقريباً جميعهم من الهواة في السياسة.

و لعدم قناعة معظم القوى السياسية بما جرى، تمت متابعة العمل على لم شمل المعارضة، و هكذا تم عقد مؤتمر جديد للمعارضة في إسطنبول بتاريخ 28 أيلول/سبتمبر، و ضم الإخوان المسلمون و إعلان دمشق و مجموعة إسطنبول و الأستاذ برهان غليون و ممثلي الحراك الثوري، و لم تشارك فيه هيئة التنسيق فقط لأنه عقد في إسطنبول، و كان هذا خطأ كبير من قبلها. نجم عن ذاك الإجتماع تشكيل "المجلس الوطني السوري" بتركيبته الحالية التي تضم ست كتل هي: الإخوان المسلمين و كتلة المجلس الوطني القديم (مجموعة إسطنبول) و كتلة المستقلين (برهان غليون) و كتلة الحراك الثوري و الكتلة الكردية و المنظمة الآشورية الديمقراطية. شيئان يجب ملاحظتهما هو أن المجلس الجديد حمل نفس إسم المجلس القديم الذي شكل بتاريخ 16 أيلول/سبتمبر، فقط ليقولوا أنهم الأساس، و ضم كل أعضاء ذلك المجلس و الذين أغلبهم من الهواة في السياسة، و لربما لم يقرؤوا كتاباً واحداً عنها في حياتهم. هكذا نشأ المجلس الذي إنتظرناه طويلاً، ليضم أكثر من 240 شخصاً، أغلبهم عالة على المجلس نفسه و أيضاً على الثورة التي يدفع الناس في حمص و غيرها من المدن ثمنها بأرواحهم و أرزاقهم.

منذ البداية، و بدل من أن يركز المجلس جهوده على رص صفوفه المتناثرة في كل أنحاء العالم، و التي لا تعرف بعضها البعض لا بالوجه و لا بالشخص، عمد المجلس إلى تصوير نفسه على أنه "الممثل الشرعي و الوحيد للشعب السوري" على الصعيدين الداخلي و الخارجي، و جعل من ذلك الأمر قضية كبرى من قضاياه، و لم أفهم شخصياً الحكمة من ذلك! نجح المجلس في البداية في هذا السعي على الصعيد الداخلي عن طريق تجييش العواطف و لجوئه إلى طرق لا تنم عن أخلاق سياسية صاحية، و إستخدام لذلك صفحة الثورة السورية التي مسؤوليها أعضاء في المجلس، و التي كان من المفترض أن تبقى فوق الخلافات السياسية الداخلية للمعارضة، كل هذا تم رغم أنني كنت قد نبهت مسؤوليها بنفسي حول هذا الموضوع، إذ لي إتصال شخصي مع أحدهم. و لكن فشل المجلس على الصعيدين العربي و العالمي في نزع ذلك الإعتراف. بالإضافة لذلك ، فإن نجاحه الأولي على الصعيد الداخلي لم يكن من غير ثمن، إذ إنه خلق شرخاً و ريبة بينه و بين بقية فصائل المعارضة.

ثم إبتدأت المشاكل داخل المجلس عينه تظهر، فتوالت الإستقالات فيه لتعبر عن مدى الخلافات الشخصية بين أعضائه، هكذا جاءت إستقالة محمد العبد الله و مرح البقاعي كأمثلة واضحة على ذلك. كما بدأت علامات التململ من البنية المترهلة للمجلس تظهر باكراً، هكذا إنفصل عماد الدين الرشيد عن مجموعة إسطنبول، و أسس مجموعة خاصة به. و عندما زرت تونس في شهر كانون الأول الماضي، و إلتقيت بالعديد من أعضاء المجلس فوراً بعد إنتهاء إنعقاد أمانته العامة، كان عدم الرضا واضحاً على كل الوجوه التي إلتقيت. ثم جاء مؤخراً تشكيل "مجموعة العمل الوطني" كأبرز تجسيد على التململ الكبير داخل المجلس. كما جاءت الخلافات على الرئاسة فيه لتعبر عن أطماع السلطة في داخله. أما الإتفاق المجهض مع هيئة التنسيق فكان الطامة الكبرى، إذ لم يؤدي فقط إلى قطع الشعرة الوحيدة الباقية بين هيئة التنسيق و المجلس، بل أظهر رياء و ديماغوجية بعض أعضاء قيادة المجلس و أيضاً الخلل في آلية أخذ القرار في داخل أجهزته .

أما في دعمه للثورة السورية، فإعتمد على الحل الدبلوماسي كحل وحيد للأزمة السورية، هكذا نقل الصراع مع النظام إلى المجالين العربي و العالمي، بينما أهمل الصعيدين الميداني و السياسي. ، فخسر المجلس الكثير من الدعم في أوساط الشعب الثائر على الأرض، و الشعب السوري المؤيد للثورة، و كثير من شخصيات المعارضة التي إرتأت في البداية أن تعطيه فرصته. فوق ذلك فمن الناحية الديبلوماسية، تعامل مع الموضوع بسذاجة، فأخذ قضيته إلى الجامعة العربية التي لم تتعامل مع ملف مثل هذا من قبل. و بالرغم من أن قيادات المجلس لاقت ترحيباً من القادة العرب في البداية، إلا أن المسؤولين العرب بدؤوا يتململون من التصرفات الصبيانية لقادة المجلس، حتى وصل الحال تقريباً إلى التجاهل الكلي لقادة المجلس من قبل المسؤولين العرب. هكذا أسلم قادة المجلس الملف السوري إلى حمد بن جاسم الذي أصبح يتصرف بالملف السوري دون إستشارتهم، و هذا ما صرح لي به أحد مسؤولي المجلس ببنات شفتيه. و ها نحن عالقون في وسط ضياع عربي في كيفية التعامل مع القضية السورية، و مواجهة عالمية على الأرض السورية.

إذا كان قد شكل تجمع المعارضة السورية -التي عُرف عنها تشتتها الفظيع- في كيانين إثنين رئيسين مرحلة بارزة في تاريخ المعارضة السورية، فإن الأعطاب التي مازالت تكبل هذين الفصيلين تشكل نقطة الضعف الكبرى للثورة السورية. فواحد منهما منفصل عن واقعه، وبإنفصاله هذا خلق شرخاً بينه و بين الشعب الثائر، و الآخر مشلول بخلل بنيته الداخلية و بهوسه بالحصول على صفة "الممثل الشرعي و الوحيد". هكذا بينما يدفع الشعب ثمن طلبه للحرية الكثير من العذابات و الدماء، تقف الطبقة السياسية عاجزة عن تقدير هذه التضحيات و قيادتها إلى نتيجتها الفضلى.

 ملاحظة: كتبت هذه المقالة و نشرت في الحوار المتمدن في شهر آذار 2012