الجمعة، 30 ديسمبر 2011

لا أعرف لماذا كل هذا التشاؤم؟



كلما أتت سيرة لجنة المراقبين على لسان أي من أنصار الثورة السورية، فإذ بكلامه مملوء بالتشاؤم منتقداً الجامعة و المراقبين و رئيسهم، و في كل مرة أسمع هذا أتسأل لماذا كل هذا التشاؤم؟

من اللحظة التي أراد المجلس الوطني السوري اللجوء إلى جامعة الدول العربية لمساعدته على إيجاد حلٍ للقضية السورية فإنه قبل بأن يكون المسار الدبلوماسي واحد من مسارات الحل لهذه القضية. فجامعة الدول العربية ليست هيئة حقوقية مهتمة بحقوق الإنسان، و لا هي منظمة غير حكومية تهدف للدفاع عن قيم معينة، بل هي هيئة دبلوماسية بإمتياز، أعضاؤها دول متعددة، و آليات عملها محكومة بقوانين و أعراف تضبط العلاقات بين هذه الدول.

و الحال، إن العملية الدبلوماسية هي لعبة لها قواعدها ولاعبيها و أشوطها. أما القواعد فهي القوانين الدولية الناظمة التي تحكم بين الدول و لكنها أيضاً الأعراف و التقاليد الغير مكتوبة المتعارف عليها و التي تراكمت مع الزمن. و أما اللاعبون فهم يختلفون في قوتهم، ففعاليتهم و قدرتهم تعتمد على عوامل متعددة منها الإمكانيات السياسية و الإقتصادية للبلدان أو الهيئات التي يمثلون و قوة علاقاتهم الشخصية و أيضاً قدرتهم على فهم العملية الدبلوماسية ذاتها و أخيراً قدرتهم على القراءة الصحيحة لحوادث التاريخ. أما الأشواط فتختلف من لعبة للعبة، و العوامل التي تقررها هي طبيعة القضية التي يتم التعامل معها و كيفية تطور مجريات هذه القضية و أيضاً ذكاء و إبداع اللاعبين المشاركين فيها. إذاً إنطلاقاً من هذا المنظور فأين تقف الجامعة العربية من القضية السورية؟

شكل تدخل الجامعة العربية في الأمر السوري حدثاً إستثنائياً، فالجامعة العربية أنشأت من أجل "توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقا للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها"، و ليس من أجل حل المشاكل الداخلية لأي بلد من أعضائها. و لكن هذا لا يعني أن غاية الجامعة لا يمكن أن تتكيف و تتأقلم مع ظروفٍ عربيةٍ جديدة كالربيع العربي. هكذا جاء التدخل العربي في الأزمة الداخلية الليبية سابقة من الناحية المبدئية، و لكنه كان سهلاً من الناحية العملية لوجود إجماع عربي و عالمي نحوه. ثم أتى التدخل في القضية السورية ليشكل حدثاً إستثنائياً إذ إن الجامعة العربية ليس لها باع طويل في حل الأزمات الداخلية العربية و القضية السورية شديدة التعقيد. لهذا فإن أي نظرة إلى هذا التدخل تهمل إستثنائيته و جراءته هي نظرة قاصرة ليس فيها تقديرٌ حقيقي لواقع الأمر.

أما بالنسبة للاعبين، فبرزت قطر كلاعب أساسي في هذا التدخل، ليس فقط لكونها ترأس الجامعة العربية في دورتها الحالية، بل أيضاً لكونها تمسك تقريباً بكل خيوط اللعبة. فمع غياب الدور المصري و تشتت قوى الدول المغاربية، بقيت الكتلة الخليجة هي الوحيدة في الساحة و هي المتوحدة بشكل لم تكن عليه من قبل تحت درع سعودية و رأس حربة قطرية. هكذا أخذت قطر بشخص وزير خارجيتها حمد بن جاسم دور القيادة في القضية السورية. كيف لا و هو المدعوم من دول الخليج كافة و الذي له علاقات شخصية و دبلوماسية متعددة الجوانب بدأً بأمين عام الجامعة العربية و بدول عربيةٍ عدةٍ و إنتهاءً بالعديد من عواصم القرار العالمي و شخصياته.

لهذا لم يأتي تعيين محمد أحمد مصطفى الدابي كرئيس لبعثة مراقبي جامعة الدول العربية إلى سوريا كمفاجأة كبرى للمهتمين بأمور السياسة العربية و الدولية. فهو كان سفير السودان في قطر بين عامي 2000 -2004 ، و هو كان لاعباً مهماً في إتفاق الدوحة الذي وقعته السودان مع بعض فصائل المتمردين في دارفور عام 2001  و كان برعاية قطرية . كما لعب الدابي دوراً في التوصل إلى إتفاقية أبوجا بين الحكومة  السودانية و فصائل دارفورية عام 2005 ، ثمَّ عين مفوضاً للجنة وقف إطلاق النارالتي إنبثقت عن هذه الإتفاقية. هكذا أقام علاقة جيدة مع الإدارة القطرية و بنى لنفسه سمعة جيدة كخبير ديبلوماسي و عسكري في النزعات الداخلية عندها.

و لكن تعيين الدابي على رأس لجنة مراقبي جامعة الدول العربية إلى سوريا شكل موضوع إمتعاض من قبل المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان و النشطاء الحقوقيين. فهو كان مدير جهاز الإختبارات السودانية بعد تسلم البشير الحكم في عام 1989 ، و في عهده حصلت إنتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان و تضمنت "التوقيف و الإحتجاز التعسفيين و الإخفاء الإجباري و التعذيب" بحسب منظمة العفو الدولية. كما أنه كان ممثلاً للرئيس البشير في دارفور أثناء الحرب التي وقعت في هذا الإقليم، و وجهت له تهمة جرائم حرب عام 2005 لدوره فيها، و لكنها أسقطت عنه فيما بعد لعدم توافر الأدلة. كل هذا جعل إختياره كرئيس للجنة معنية بقضية صلبها إنتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان إختياراً غير موفق على الأقل من الناحية المعنوية و الشكلية. لهذا قالت منظمة العفو الدولية إن «قرار الجامعة العربية تكليف فريق بالجيش السوداني - ارتكبت في عهده انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان بالسودان - برئاسة بعثة المراقبين، يقوض جهود الجامعة حتى الآن، ويضع مصداقية البعثة محل شك بالغ». ولكن لا يبدو أن صانعي القرار في السياسات العربية يعيرون هذا الموضوع إنتباهاً و لا هم حساسون لإشكالياته و التي طبعاً قد تكون معنوية فقط.

و لكن الأهم من هذا، إن تعيين الدابي أثار مخاوف أطرافٍ عديدة في المعارضة السورية. لهذا سارع عبد الكريم الريحاوي رئيس الرابطة السورية للدفاع عن حقوق الانسان إلى القول "إنه لن يكون محايداً و أنه سيتعاطف مع من يماثلونه فى موقفه القانونى!! لذلك لن يكون مستغرباً أن يؤيد أو يتعاطف مع النظام السورى و أتباعه الذين يرتكبون جرائم ضد الانسانيةعلى مدار الساعة فى سوريا". مخاوف مشابهة عبر لي عنها صديقي رضوان زيادة أثناء أحد أحاديثي معه. و لكن ما فاقم من مخاوف المعارضة قول رئيس البعثة بعد زيارته الأولى لحمص «كانت هناك مناطق الحالة فيها تعبانة، لكن أعضاء الوفد لم يروا شيئاً مخيفاً» و أضاف أن فريقه «لم ير دبابات بل بعض المدرعات». هكذا سارع المعارض السوري سعيد سلام رئيس المجلس الأعلى لقيادة الثورة السورية إلى إستنكار تصريحات رئيس بعثة مراقبي الجامعة العربية، و إعتبر أن الجامعة العربية - حتى الآن - "لم ترتق إلى الحس بالمسؤولية تجاه ما يحدث للسوريين ،كما أنها تقف موقفاً عاجزاً ولا تريد الاعتراف بعجزها".

و الحال، إنني لا أشاطر المعارضة نظرتها المتشائمة لعمل بعثة المراقبين. إذ إن تشكيل مثل هذه اللجان عادة هو عملية شكلية إجرائية. بمعنىً آخر عادة ما يكتب مضمون تقرير هذه اللجان قبل تشكيلها، و تشكيل مثل هذه اللجان هو فقط لتبرير التقرير الذي كان قد كُتب و توثيق حيثياته و أيضاً لوضع اللمسات الأخيرة عليه. هذا ما حصل عندما قررت عصبة الأمم فصل إسكندرونة عن سوريا و عندما قررت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، القرارات في كلتا الحالتين كانت قد أتخذت قبل بعث اللجان. لذلك إن ما قررته القوى الفاعلة فيما يتعلق بنتيجة المبادرة العربية كان قد أتخذ. أنا شخصياً أظنه سيكون لصالح الثورة. بالإضافة لهذا فإن النظام السوري غبي جداً، فهو قد إنخدع بالكلام الذي إعتبره مطمئناً من قبل رئيس اللجنة، مع أن هذا الكلام لا يدل على الإطلاق لا عن أرائه الحقيقية  و لا عن طبيعة ما وجدته لجنته، إذ إن كلامه المعتدل اللهجة لا يعدو كونه كلاماً ديبلوماسياً و يأتي في سياق الأعراف المتبعة في هذه الأحوال. و هذا ما أوضحته الجامعة العربية بلسان رئيس غرفة العمليات الخاصة بعمل بعثة مراقبي الجامعة العربية الى سوريا السفير عدنان الخضير عندما قال أن تصريحات رئيس بعثة مراقبي الجامعة العربية الفريق أول محمد الدابي حول "إطمئنان الوضع في سوريا" كان يقصد فيها "التزام الحكومة السورية تجاه البعثة وليس ما يجري على الارض". و لكن بسبب إنخداعه هذا ترك النظام مصفحاته ظاهرة للعيان و شبيحته غير خافية على الأبصار و قناصته تمارس هوايتها بالقتل في وضح النهار.

إذاً إلى أين يقودنا كل هذا؟ أو بكلام آخر في أي شوط من أشواط اللعبة الديبلوماسية هذه نحن؟ و الحق، إننا في الشوط الأخير من أشواط اللعبة هذه، فتقرير لجنة المراقبين الذي سيصدر الأسبوع القادم سيأتي على النحو التالي:
لم توقف الحكومة السورية أعمال العنف في المدن و الأحياء السكنية لأن هذا ما تعرضت له اللجنة نفسها أثناء زيارتها لبابا عمرو، و لم تتوقف أجهزة الأمن السورية و الشبيحة عن التعرض للمظاهرات السلمية لأن هذا ما رأته اللجنة بأم أعينها، و لم يتم الإفراج عن كل المعتقلين بسبب الأحداث الراهنة إذ لم تفرج الحكومة السورية إلا عن 750 معتقلاً بينما عددهم الكلي بعشرات الآلاف، و لم يتم سحب وإخلاء جميع المظاهر المسلحة من المدن والأماكن السكنية التي شهدت أو تشهد المظاهرات وحركات الاحتجاج إذ إن مصفحات النظام مازالت على بينة من مرأى العين كما عاينت اللجنة عينها، و أخيراً و ليس آخراً لم تقم الحكومة السورية بمنح رخص الاعتماد لوسائل الإعلام العربية والدولية والتحقق من فتح المجال أمامها للتنقل بحرية في جميع أنحاء سوريا وعدم التعرض لها إذ لم تسمح الحكومة السورية للصحافيين بمرافقة اللجنة. و بعدئذٍ ستحول جامعة الدول العربية الملف السوري إلى مجلس الأمن لتحرج به الذين مازالوا يعولون على إصلاح النظام -أعني بالتحديد المسؤولين الروس-  و تضعهم أمام الأمر الواقع، إذ إنهم فاقدي البصيرة غيرقادرين على رؤية ما هو واضح و جلّي، و عندئذٍ سيحدث ما ليس منه بد.

لهذا أقول لأعزائي في المعارضة السورية و بالأخص لأصدقائي في المجلس الوطني السوري: العملية الديبلوماسية هي كمثل لعبة بوكر فيها الكثير من المفاجآت، و لاعبوها يتلذذون بلعبها إذا أتقنوها و لم يتأثروا بتقلباتها الدرامية، و لكنهم إذا تأثروا بها فإنهم يتمرمرون مع كل منعطف من منعطفاتها. أو بكلام آخر العملية الديبلوماسية هي كمثل مسرحية درامية متعددة الحبكات ،  تحتبس أنفاسنا مع كل حبكة من حبكاتها إذا لم نكن من كاتبيها و مخرجيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق